كتاب شعاع من المحراب (اسم الجزء: 3)

أجل لقد كان معاذ رضي الله عنه أُمةً في علمه، وأُمَّةً في عمله، كان قارئًا للقرآن، قائمًا لله في الليل والناس نيام، وفي حواره مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كما في البخاري وغيره- ما يكشف ذلك- قال معاذ لأبي موسى رضي الله عنهما- حين بعثا لليمن-: كيف تقرأ القرآن؟ قال أبو موسى: أقرؤه في صلاتي، وعلى راحلتي، وقائمًا وقاعدًا، أتفوقه تفوقًا، يعني شيئًا بعد شيء، ثم قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، قال الراوي: وكان معاذ فضّل على أبي موسى (¬1).
وكان زاهدًا ورعًا، وقد لحقه دَين فلم يبرح به غُرَماؤه حتى باع ماله وقسمه بينهم فقام ولا مال له، ثم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليجبره، وحين قدم من اليمن ومعه رقيق لقى عمر بمكة، فقال له: ما هؤلاء؟ قال: أهدوا إلىِّ قال: ادفعهم إلى أبي بكر، فأبى، فبات فرأى (في المنام) كأنه يُجَر إلى النار وعمر يجذبه، فلما أصبح قال: يا ابن الخطاب ما أراني إلا مطيعك، إلى أن قال: فدفعهم أبو بكر إليه- لمعرفته بحاله- ثم أصبح فرآهم يصلون، قال: لمن تصلون؟ قالوا: لله، قال: فأنتم لله (¬2).
وكان رضي الله عنه واعظا صادقًا وناصحًا حكيمًا، فقد مرَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم برجل، فقال: أوصوني، فجعلوا يوصونه، وكان معاذ في آخر القوم فقال: أوصني يرحمك الله، قال: قد أوصوك فلم يألوا، وإني سأجمع لك أمرك: اعلم أنه لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك إلى الآخرة أفقر، فابدأ بنصيبك من الآخرة فإنه سيمر بك على نصيبك من الدنيا فينتظمه، ثم يزول معك أينما زلت (¬3).
¬_________
(¬1) السير 1/ 449، والصحيح مع الفتح 8/ 60، 62.
(¬2) أخرجه بن سعد وأبو نعيم والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، السر 1/ 554.
(¬3) أخرجه أحمد في الزهد .. السير 1/ 455.

الصفحة 31