كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 3)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما قولهم: "إنه يصح إطلاق "نأت" على ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم فمردود جداً، لما يلزم منه فك التركيب، وارتكاب المحذور، أما فك التركيب، فإن الضمائر في "ننسخ" و"ننسها" و"نأت" دالة على تعظيم الفاعل، ومنادية على جلالته واستبداده بما فعله، فإذا دخل الغير يفوت الغرض المطلوب، ولاشك أنه لا مدخل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في "ننسها"، فإذا فرق الضمائر، ينخرم النظم، وأن ضمير الخطاب في قوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ) - إذا خص بالنبي صلى الله عليه وسلم أو عم- والاستفهام المفيد للتقرير ينافي اشتراكه صلى الله عليه وسلم في تلك الضمائر، وكذا وضع المظهر موضع المضمر، وتخصيصه بذكر اسم الذات في قوله تعالى: (أَنَّ اللَّهَ) مكرراً.
وأما ارتكاب المحذور، فهو إذا جعل الفاعل في قوله: "ننسخ" و"نأت" الله، والغير؛ فلا يخلو، إما أن يكون حقيقة فيه دون الله سبحانه وتعالى، أو مجازاً، أو مشتركاً بينهما، فالكل باطل؛ أما بطلان الأول والثاني فظاهر، لأنه يستلزم اجتماع إرادة الحقيقة والمجاز معاً. وأما الثالث، فيستلزم تعدد الفاعل، وحينئذ يفوت التعظيم المطلوب.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3 - 4] فضعيف أيضاً؛ لأن الكلام هناك في المنزل؛ لأن الكفار كانوا ينسبونه إلى الجن، ويسمون قائله مجنوناً بشهادة الآيات المناسبة لها كقوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) إلى قوله: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [التكوير: 22] وقوله: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) وقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) [الحاقة: 40 - 41] ولهذا عقبة بقوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) [النجم: 3 - 5]، فإذن لا تدخل في المعنى الأحاديث الواردة منه صلى الله عليه وسلم.

الصفحة 34