كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 3)

(كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) منقادون لا يمتنع شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته، ومن كان بهذه الصفة لم يجانس، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد. والتنوين في (كل) عوض من المضاف إليه أي: كل ما في السموات والأرض، ويجوز أن يراد كل من جعلوه لله ولداً. (لَهُ قَانِتُونَ): مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم. فإن قلت: كيف جاء بـ: "ما" التي لغير أولي العلم مع قوله: (قَانِتُونَ)؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن الأمر ولا يمتنع عن الإرادة. ولما كان القصد في الإيراد إلى من عبد من دون الله من العقلاء انخرطوا في هذا السلك انخراطاً أولياً، واتصفوا بصفة العجز والتسخير أولوياً، فحينئذ يقال ما قال المصنف: "من كان بهذه الصفة لم يجانس، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد" وفيه إشارة إلى أن العقلاء إذا نسبوا إلى الألوهية كانوا بمنزلة الجمادات، والجمادات إذا نسبت إلى العبودية كانت بمنزلة العقلاء.
قوله: (ويجوز أن يراد كل من جعلوه): عطف على قوله: "كل ما في السماوات والأرض"، ويجوز أن يعطف على قوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) وهو خالقه"، فعلى هذا (مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) لم يكن عاماً، بل مجرى على العقلاء لإرادة الوصفية، فحينئذ يتوجه عليه: كيف قرن "ما" الذي لغير أولي العلم مع قوله: (قَانِتُونَ) وهو لأولي العلم؟ ويكون الجواب: أن حاله كحال قولك: سبحان ما سخركن لنا، هذا توطئة للجواب، ولهذا عطف عليه قوله: فكأنه جاء بـ "ما" دون من، تحقيراً على سبيل البيان، أي: الظاهر أن يقال: له من في السماوات والأرض، أي: ممن عبد دون الله من الملائكة والمسيح وعزير، فوضع "ما"، وهي لغير أولي العلم، موضع "من" إرادة للوصفية، وهي المملوكية، تحقيراً لشأنهم، حيث نسبوا إلى الله سبحانه وتعالى بالوالدية، كما حقر شأن الملائكة في قوله تعالى: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات: 158]، لهذه العلة سماهم جنة، وهم ملائكة مكرمون؛ لأنهم نسبوا إلى الله تعالى.

الصفحة 59