كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 3)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللفظ، فإن ما يحصره اللفظ يحصره الخط، ولما لم يكن يؤثر عليه السلام على اختبار الله في شيء مما ابتلاه من الكلمات قيل فيهن: (فَأَتَمَّهُنَّ)، وقال: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم: 37]، ويعلم منه أن الكلمات، إذا لم تفسر بالمذكورات جاز أن تفسر بالعشر إلى آخره، وحينئذ لم يكن بياناً، بل كان استئنافاً على بيان الموجب، يعني: لما قام إبراهيم عليه السلام بما كلف به من الكلمات قيل: ما فعل الله به جزاء لما فعل، فقيل: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) أي: وعده بما يتلوه من الإكرام والإفضال، وأما تقرير التفضيل وتطبيق المبين على المجمل فإن يقال: إنه تعالى أمره:
أولاً: بقوله: (أَسْلِمْ)، وأتمه إبراهيم عليه السلام بما ينبئ عنه قوله: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [البقرة: 131] وإن كان هذا متأخراً تلاوة لكنه متقدم معنى، ومن ثم قال المصنف: "والإسلام قبل ذلك".
وثانياً: ابتلاه بقوله: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) أي: استعد للإمامة وهيئ أهبتها، فإني جاعلك للناس إماماً، فأتمه بما دل عليه قوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)، فإن الجواب مبني على الأسلوب الحكيم، أي: إن نفسي منقادة مطواعة لا تتأبى عن أمرك لما تفضلت علي وجعلتني أهلاً لذلك، لكن اجعل بعض ذريتي أهلاً لها.
وثالثاً: ابتلاه بقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) فأتمه بما دل عليه قوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125]، وأن الأمر باتخاذ الناس مقامه مصلى يقتضي أن يكون مقامه ذلك صالحاً لأن يثوب الناس إليه ويصلى فيه، وإنما كان كذلك إذا كان مأموراً من عند الله بجعل مقامه صالحاً لذلك. والذي يدل على وجود ذلك الأمر قوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ)، فعبر عن الأمر الوارد على المثابة بالإخبار للدلالة على سرعة امتثاله.

الصفحة 74