فصل في صبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أذى الكفار:
لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، ومنعه الله بعمه أبي طالب، ورأت قريش أنهم لا سبيل لهم عليه، قذفوه بأنواع العيوب، فقالوا: ساحر، كاهن، شاعر، كذاب، مجنون، وبالغوا في أذاه. فرد الله تعالى عليهم وكذَّبَهم، وأنزل في ذلك آيات (¬1).
قال ابن مسعود: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند البيت، وأبو جهل بن هشام وأصحاب له جلوس، وقد نُحرت جزورٌ بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سَلَى جزور بني فلان فيأخذه، فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد. فانبعث أشقى القوم وأخذه، فألقاه على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، واستضحكوا وجعل بعضهم يميل إلى بعض، وأنا قائم أنظر إليه، ولو كانت في منعة، طرحته عن ظهره، وهو ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وهي جُوَيرية فطرحته عن ظهره، ثم أقبلت عليهم تَسُبُّهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته، رفع يديه فدعا عليهم -وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا-، ثم قال: "اللَّهمَّ عَليكَ بقُرَيشٍ" ثلاثًا. فلما سمعوا صوته، ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، ثم قال: "اللَّهمَّ عَليكَ بأبي جَهْل، وعُتْبَة وشَيبَة ابْنَي رَبِيعَة، والوَليدِ بن عُتْبَة، وأميَّةَ بنِ خَلَف، وعُقْبَة بن أبي مُعَيط. وذكر السابع: عُمارة بنِ الوَليد" (¬2).
والسَّلى: الوعاء الذي يكون فيه الولدُ إذا وضع من الناقة. فأما في الجزور فما في بطنه. وأشقى القوم: عقبة بن أبي معيط.
¬__________
= وقال الحافظ ابن كثير في "البداية" 3/ 80 - 81: هكذا ذكره البيهقي بعد قصة الهجرة وفي ذكره هاهنا نظر، فإن الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم صاحب جعفر وأصحابه، وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ قبيل الفتح، ويؤيده ما أخرجه مسلم (1774) من حديث أنس - رضي الله عنه - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن ذكر ابن حجر في "الفتح" 8/ 473 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كاتب النجاشي الذي أسلم وصلى عليه لما مات، ثم كاتب النجاشي الذي ولي بعده وكان كافرًا.
(¬1) انظر "المنتظم" 2/ 378.
(¬2) أخرجه البخاري (520)، ومسلم (1794).