كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 3)

فِي الطِّبِّ وَهُوَ مَاهِرٌ فِي غَيْرِهِ، فَقُلْتُ: " زِيدٌ طَبِيبٌ مَاهِرٌ " فَإِنَّ قَوْلَكَ: (مَاهِرٌ) مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ كَوْنُهُ مَاهِرًا فِي الطِّبِّ فَيَكُونُ كَاذِبًا، وَبَيْنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ فَيَكُونُ صَادِقًا.
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ مَجَازَاتِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِصُوَرٍ مَجْهُولَةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: " اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: " بَعْضُهُمْ غَيْرُ مُرَادٍ لِي مِنْ لَفْظِي " (١) فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُجْمَلًا غَيْرَ مَعْلُومٍ، أَوْ بِصِفَةٍ مَجْهُولَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} فَإِنَّ تَقْيِيدَ الْحِلِّ بِالْإِحْصَانِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَا هُوَ الْإِحْصَانُ، مُوجِبٌ لِلْإِجْمَالِ فِيمَا أُحِلَّ (٢) أَوْ بِاسْتِثْنَاءٍ مَجْهُولٍ كَقَوْلِهِ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} (٣) فَإِنَّهُ مَهْمَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مُجْمَلًا، فَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ.
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ إِخْرَاجِ اللَّفْظِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ فِي اللُّغَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ، قَبْل بَيَانِهِ لَنَا، كَقَوْلِهِ: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فَإِنَّهُ يَكُونُ مُجْمَلًا لِعَدَمِ إِشْعَارِ اللَّفْظِ بِمَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِعَيْنِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ؛ لِأَنَّهُ (٤) مُجْمَلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُجُوبِ.
---------------
(١) هَذَا مِثَالٌ فَرْضِيٌّ لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي التَّكْلِيفِ.
(٢) الْإِحْصَانُ وَالسِّفَاحُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ إِلَّا أَنَّ الْإِحْصَانَ هُنَا بِمَعْنَى الْعِفَّةِ، وَالسِّفَاحَ بِمَعْنَى الزِّنَا. فَمَعْنَى: " مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ " أَعِفَّاءُ بِنِكَاحِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ غَيْرُ زُنَاةٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَعُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَا خَفَاءَ فِي الْمَعْنَى وَلَا إِجْمَالَ فِي الْآيَةِ.
(٣) (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ الْمُسْتَثْنَى فِي آيَةِ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَآيَةِ (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وَغَيْرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَآيَةِ (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ وَهُمَا قَبْلَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ نُزُولًا. وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولًا وَلَا الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُجْمَلًا. ضَرُورَةَ أَنَّ مَا يُتْلَى مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
(٤) لِأَنَّهُ فِيهِ تَحْرِيفٌ. وَالصَّوَابُ: لَا أَنَّهُ ; بِحَرْفِ النَّفْيِ لَا بِحَرْفِ التَّعْلِيلِ.

الصفحة 11