كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 3)

وَلْنَذْكُرْ حُجَّةَ كُلِّ فَرِيقٍ، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ.
أَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالتَّقْيِيدِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَهِيَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَحَدٍّ فِي ذَاتِهِ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ فَإِذَا نَصَّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلِهَذَا حُمِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالذَّاكِرَاتِ} عَلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا} مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ خَارِجٍ.
وَهَذَا مِمَّا لَا اتِّجَاهَ لَهُ، فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى بِالنَّفْسِ، أَوِ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ.
وَالْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَا تَعَدُّدَ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِالْمُتَعَلِّقَاتِ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِأَحَدِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، أَوِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْآخَرِ وَإِلَّا كَانَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ بِبَعْضِ الْمُخْتَلِفَاتِ أَمْرًا وَنَهْيًا بِبَاقِي الْمُخْتَلِفَاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ مُتَنَاقِضٌ، بَلْ وَكَانَ يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالصَّوْمِ الْمُقَيَّدِ فِي الْحَجِّ بِالتَّفْرِيقِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} وَبِالتَّتَابُعِ فِي الظِّهَارِ حَيْثُ قَالَ {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أَنْ يَتَقَيَّدَ الصَّوْمُ الْمُطْلَقُ فِي الْيَمِينِ، إِمَّا بِالتَّتَابُعِ أَوِ التَّفْرِيقِ، وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَلَا أَوْلَوِيَّةَ.
كَيْفَ وَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، إِبْطَالُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى أَحَدِ الْمُخْتَلِفَيْنِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى الْآخَرِ.
وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ، فَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ غَيْرُ مُتَّحِدَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ دَلَالَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، دَلَالَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الْمُحَالِ الَّذِي قَدَّمْنَا لُزُومَهُ فِي الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ. (١) وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَمْلِ الذَّاكِرَاتِ عَلَى الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
وَدَلِيلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَالذَّاكِرَاتِ} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا}
---------------
(١) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص ١٥٣ ج١.

الصفحة 6