كتاب فتح القدير للشوكاني (اسم الجزء: 3)

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 22]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21)
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
لَمَّا حَثَّ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَوَعَدَهُمُ الْفِرْدَوْسَ عَلَى فِعْلِهَا، عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ لِيَتَمَكَّنَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِ الْمُكَلَّفِينَ فَقَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إِلَى آخِرِهِ، وَاللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ مُبْتَدَأَةٌ، وَقِيلَ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ لِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ فِي ضِمْنِ خَلْقِ أَبِيهِمْ آدَمَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ آدَمُ. وَالسُّلَالَةُ فُعَالَةٌ مِنَ السَّلِّ، وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ: سَلَلْتُ الشَّعْرَةَ مِنَ الْعَجِينِ، وَالسَّيْفَ مِنَ الْغِمْدِ فَانْسَلَّ، فَالنُّطْفَةُ سُلَالَةٌ، وَالْوَلَدُ سَلِيلٌ، وَسُلَالَةٌ أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» :
فَجَاءَتْ بِهِ عَضْبَ الْأَدِيِمِ غَضَنْفَرًا ... سُلَالَةَ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينِ
وَقَوْلُ الْآخَرِ «2» :
وَهَلْ هِنْدُ إِلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ ... سليلة أفراس تجلّلها «3» بَغْلُ
ومِنْ فِي مِنْ سُلالَةٍ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلَقْنَا، وَفِي مِنْ طِينٍ بَيَانِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، وَقَعَ صِفَةً لِسُلَالَةٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ طِينٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ جَوْهَرَ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا مِنْ طِينٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ آدَمُ، وَهُوَ مِنْ طِينٍ خَالِصٍ وَأَوْلَادُهُ مَنْ طِينٍ وَمَنِيٍّ. وَقِيلَ: السُّلَالَةُ: الطِّينُ إِذَا عَصَرْتَهُ انْسَلَّ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِكَ، فَالَّذِي يَخْرُجُ هُوَ السُّلَالَةُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ ثُمَّ جَعَلْناهُ أَيِ الْجِنْسَ بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِهِ الَّذِينَ هُمْ بَنُو آدَمَ، أَوْ جَعَلْنَا نَسْلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ إِنْ أُرِيدَ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ نُطْفَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ النُّطْفَةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ الْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَرَارِ الْمَكِينِ: الرَّحِمُ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْقَرَارِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ مُبَالِغَةً، وَمَعْنَى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أَيْ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَالَ النُّطْفَةَ الْبَيْضَاءَ عَلَقَةً حَمْرَاءَ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أَيْ: قِطْعَةَ لَحْمٍ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أَيْ: جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَصَلِّبَةً لِتَكُونَ عَمُودًا لِلْبَدَنِ عَلَى أَشْكَالٍ
__________
(1) . هو حسان بن ثابت.
(2) . القائل: هند بنت النعمان.
(3) . «تجلّلها» : علاها. ويروى: تحلّلها.

الصفحة 564