كتاب فتح القدير للشوكاني (اسم الجزء: 3)

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يَعْنِي التَّوْرَاةَ، وَخَصَّ مُوسَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ فِي الطُّورِ، وَكَانَ هَارُونُ خَلِيفَتَهُ فِي قَوْمِهِ: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أَيْ: لَعَلَّ قَوْمَ مُوسَى يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ إِيتَاءَ مُوسَى إِيَّاهَا إِيتَاءً لِقَوْمِهِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُنَزَّلَةً عَلَى مُوسَى فَهِيَ لِإِرْشَادِ قَوْمِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ ثَمَّ مُضَافًا مَحْذُوفًا أُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، أَيْ: آتَيْنَا قَوْمَ مُوسَى الْكِتَابَ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «لَعَلَّهُمْ» يَرْجِعُ «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» ، وَهُوَ وَهْمٌ لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يُؤْتَ التَّوْرَاةَ إِلَّا بَعْدَ إِهْلَاكِ فِرْعَوْنِ وَقَوْمِهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى «1» ثُمَّ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إِلَى قِصَّةِ عِيسَى إِجْمَالًا فَقَالَ: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً أَيْ: عَلَامَةً تَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِنَا، وَبَدِيعِ صُنْعِنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «2» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ، أَيْ: جَعَلْنَاهُمَا يَأْوِيَانِ إِلَيْهَا. قِيلَ: هِيَ أَرْضُ دِمَشْقَ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُقَاتِلٌ وَقِيلَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَكَعْبٌ وَقِيلَ: أَرْضُ فِلَسْطِينَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ ذاتِ قَرارٍ أَيْ: ذَاتِ مُسْتَقَرٍّ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ سَاكِنُوهُ وَمَعِينٍ أَيْ: وَمَاءٍ مَعِينٍ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الْمَاءُ الْجَارِي فِي الْعُيُونِ، فالميم على هذا زائدة كزيادتها في مبيع، وَقِيلَ: هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.
قَالَ عَلِيُّ بن سليمان الأخفش: معن الماء إذا جرى فهو معين ومعيون. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَقِيلَ:
هُوَ مَأْخُوذٌ من الماعون، وهو النفع، وبمثل ما قاله الزجاج قال الفراء. يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ مخاطبة لرسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَدَلَّ الْجَمْعُ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ كَذَا أُمِرُوا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ خُوطِبَ بِهَا كُلُّ نَبِيٍّ، لِأَنَّ هَذِهِ طَرِيقَتُهُمُ الَّتِي يَنْبَغِي لَهُمُ الْكَوْنُ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَقُلْنَا يا أيها الرسل خطابا بكل وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ لِاخْتِلَافِ أَزْمِنَتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْخُطَّابَ لِعِيسَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ كَفُّوا عَنَّا. وَالطَّيِّبَاتُ: مَا يُسْتَطَابُ وَيُسْتَلَذُّ، وَقِيلَ: هِيَ الْحَلَالُ، وَقِيلَ: هِيَ مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. ثُمَّ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَمَرَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَقَالَ: وَاعْمَلُوا صالِحاً أَيْ:
عَمَلًا صَالِحًا وَهُوَ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، ثُمَّ عَلَّلَ هَذَا الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْهُ، وَإِنِّي مُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِكُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا خُوطِبَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ مِلَّتَكُمْ وَشَرِيعَتَكُمْ أَيُّهَا الرُّسُلُ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَشَرِيعَةً مُتَّحِدَةً يَجْمَعُهَا أَصْلٌ هُوَ أَعْظَمُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَأَنْزَلَ فِيهِ كُتُبَهُ، وَهُوَ دُعَاءُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى عبادة الله وحده لَا شَرِيكَ لَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ دِينُكُمْ وَمِلَّتُكُمْ فَالْزَمُوهُ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمَّةِ هُنَا الدِّينُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «3» ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ
__________
(1) . القصص: 43.
(2) . الأنبياء: 91.
(3) . الزخرف: 22.

الصفحة 575