كتاب فتح القدير للشوكاني (اسم الجزء: 3)

تثبت، والإرساء: الثبوت. قال عَنْتَرَةَ:
فَصَبَرَتْ «1» عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ
وَقَالَ جَمِيلٌ:
أُحِبُّهَا وَالَّذِي أَرْسَى قَوَاعِدَهُ ... حَتَّى «2» إِذَا ظَهَرَتْ آيَاتُهُ بَطَنَا
وَأَنْهاراً أَيْ مِيَاهًا جَارِيَةً فِي الْأَرْضِ فِيهَا مَنَافِعُ الْخَلْقِ، أَوِ الْمُرَادُ جَعَلَ فِيهَا مَجَارِيَ الْمَاءِ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، أَيْ: جَعَلَ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، الزَّوْجُ يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ، وَعَلَى الْوَاحِدِ الْمُزَاوِجِ لِآخَرَ، وَالْمُرَادُ هُنَا بِالزَّوْجِ الْوَاحِدُ، وَلِهَذَا أَكَّدَ الزَّوْجَيْنِ بِالِاثْنَيْنِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالزَّوْجِ هُنَا الِاثْنَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا مُسْتَوْفًى، أَيْ جَعَلَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ ثَمَرَاتِ الدُّنْيَا صِنْفَيْنِ، إِمَّا فِي اللَّوْنِيَّةِ كَالْبَيَاضِ والسواد ونحوهما، أو في الطّعمية كالحلو والحامض وَنَحْوِهِمَا، أَوْ فِي الْقَدْرِ كَالصِّغَرِ وَالْكِبْرِ، أَوْ فِي الْكَيْفِيَّةِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَعْنِي بِالزَّوْجَيْنِ هُنَا الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أَيْ يُلْبِسَهُ مَكَانَهُ، فَيَصِيرُ أَسْوَدَ مظلما بعد ما كَانَ أَبْيَضَ مُنِيرًا، شَبَّهَ إِزَالَةَ نُورِ الْهُدَى بِالظُّلْمَةِ بِتَغْطِيَةِ الْأَشْيَاءِ الْحِسِّيَّةِ بِالْأَغْطِيَةِ الَّتِي تَسْتُرُهَا، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ هَذِهِ فِي الْأَعْرَافِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أَيْ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ مَدِّ الْأَرْضِ وَإِثْبَاتِهَا بِالْجِبَالِ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ الْمُتَزَاوِجَةِ، وَتَعَاقُبِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ آيَاتٌ بَيِّنَةٌ لِلنَّاظِرِينَ الْمُتَفَكِّرِينَ الْمُعْتَبِرِينَ: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذِكْرِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْآيَاتِ، قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ: قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، وَغَيْرُ مُتَجَاوِرَاتٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «3» أَيْ: وَتَقِيكُمُ الْبَرْدَ. قِيلَ:
وَالْمُتَجَاوِرَاتُ: الْمُدُنُ وَمَا كَانَ عَامِرًا، وَغَيْرُ الْمُتَجَاوِرَاتِ: الصَّحَارَى وَمَا كَانَ غَيْرَ عَامِرٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى:
مُتَجَاوِرَاتٌ مُتَدَانِيَاتٌ، تُرَابُهَا وَاحِدٌ وَمَاؤُهَا وَاحِدٌ، وَفِيهَا زَرْعٌ وَجَنَّاتٌ، ثُمَّ تَتَفَاوَتُ فِي الثِّمَارِ فَيَكُونُ الْبَعْضُ حُلْوًا وَالْبَعْضُ حَامِضًا، وَالْبَعْضُ طَيِّبًا وَالْبَعْضُ غَيْرَ طَيِّبٍ، وَالْبَعْضُ يَصْلُحُ فِيهِ نَوْعٌ وَالْبَعْضُ الْآخَرُ نَوْعٌ آخَرُ.
وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ الجنات: البساتين، وقرأ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ جَنَّاتٌ عَلَى تَقْدِيرِ: وَفِي الْأَرْضِ جَنَّاتٌ، فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ: وَبَيْنَهَا جَنَّاتٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: وَجَعَلَ فِيهَا جَنَّاتٍ، وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الزَّرْعَ بَيْنَ الْأَعْنَابِ وَالنَّخِيلِ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْخَارِجِ كَثِيرًا كَذَلِكَ، وَمِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً «4» . صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ بِرَفْعِ هَذِهِ الْأَرْبَعِ عَطْفًا عَلَى جَنَّاتٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَعْنَابٍ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالسُّلَمِيُّ بِضَمِّ الصَّادِ مِنْ صُنْوَانٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ
__________
(1) . في المطبوع: فصرت. والمثبت من الديوان ص (264) .
«صبرت عارفة» : أي حبست نفسا صابرة أي تصبر للشدائد ولا تنكرها. «ترسو» : تثبت وتستقر.
(2) . في تفسير القرطبي (9/ 280) : حبا.
(3) . النحل: 81.
(4) . الكهف: 32.

الصفحة 78