كتاب فتح القدير للشوكاني (اسم الجزء: 3)

وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغُدُوِّ وَالْآصَالِ فِي الْأَعْرَافِ، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ «1» وجاء بمن فِي مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تَغْلِيبًا لِلْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلِكَوْنِ سُجُودِ غَيْرِهِمْ تَبَعًا لِسُجُودِهِمْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ حَمْلَ السُّجُودِ عَلَى الِانْقِيَادِ مَا يُفِيدُهُ تَقْدِيمُ لِلَّهِ عَلَى الْفِعْلِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ، فَإِنَّ سُجُودَ الْكُفَّارِ لِأَصْنَامِهِمْ مَعْلُومٌ، وَلَا يَنْقَادُونَ لَهُمْ كَانْقِيَادِهِمْ لِلَّهِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، كَالْخَلْقِ وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ أَنْ يَسْأَلَ الكفار من رب السموات وَالْأَرْضِ؟ ثُمَّ لَمَّا كَانُوا يُقِرُّونَ بِذَلِكَ وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ «2» وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «3» أمر رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ، فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ فَكَأَنَّهُ حَكَى جَوَابَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَهُ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا تَلَعْثَمُوا فِي الْجَوَابِ حَذَرًا مِمَّا يَلْزَمُهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُلْزِمَهُمُ الْحُجَّةَ وَيُبَكِّتَهُمْ فَقَالَ: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ:
إِذَا كان رب السموات وَالْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ كَمَا تُقِرُّونَ بِذَلِكَ وَتَعْتَرِفُونَ بِهِ كَمَا حَكَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْكُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ «4» فَمَا بَالُكُمُ اتَّخَذْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ عَاجِزِينَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً يَنْفَعُونَهَا بِهِ وَلا ضَرًّا يَضُرُّونَ بِهِ غَيْرَهُمْ أَوْ يَدْفَعُونَهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ تَرْجُونَ مِنْهُمُ النَّفْعَ وَالضُّرَّ وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُمَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ مَثَلًا وَأَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، فَقَالَ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَيْ:
هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى فِي دِينِهِ وَهُوَ الْكَافِرُ، وَالْبَصِيرُ فِيهِ وَهُوَ الْمُوَحِّدُ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ جَاهِلٌ لِمَا يَجِبْ عَلَيْهِ وَمَا يَلْزَمُهُ، وَالثَّانِي عَالِمٌ بِذَلِكَ. قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَالْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ الْكُفْرُ، وَبِالنُّورِ الْإِيمَانُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: كَيْفَ يَكُونَانِ مُسْتَوِيَيْنِ وَبَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، وَمَا بَيْنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ، وَوُحِّدَ النُّورُ وَجُمِعَ الظُّلْمَةُ لِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدَةٌ لا تختلف، وطرائق الباطل كثيرة غير محصورة أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ أَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةُ، أَيْ: بَلْ أَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ الْوُقُوعِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَعْنَاهُ أَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا مِثْلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فَتَشَابَهَ خَلْقُ الشُّرَكَاءِ بِخَلْقِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ، أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا حَتَّى يَشْتَبِهَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، بَلْ إِذَا فَكَّرُوا بِعُقُولِهِمْ وَجَدُوا اللَّهَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ، وَسَائِرَ الشُّرَكَاءِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا، وَجُمْلَةُ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةٌ لِشُرَكَاءَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ مُتَّصِفِينَ بِأَنَّهُمْ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ بِهَذَا السَّبَبِ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَسْتَحِقُّوا بِذَلِكَ الْعِبَادَةَ مِنْهُمْ، بَلْ إِنَّمَا جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ الْأَصْنَامَ وَنَحْوَهَا، وَهِيَ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُوَضِّحَ لَهُمُ الْحَقَّ وَيُرْشِدَهُمْ إِلَى الصَّوَابِ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ مُشَارَكَةٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
__________
(1) . النحل: 48.
(2) . الزخرف: 9.
(3) . الزخرف: 87.
(4) . المؤمنون: 86 و 87.

الصفحة 89