كتاب البرهان في علوم القرآن (اسم الجزء: 3)

وَقَدْ يُخِلُّ بِذَلِكَ مَقْصُودٌ آخَرُ كَمَا فِي قوله: {وكان رسولا نبيا} لِأَجْلِ السَّجْعِ وَإِذَا كَانَ ثُبُوتُ شَيْءٍ أَوْ نَفْيُهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ آخَرَ أَوْ نَفْيِهِ كَانَ الْأَوْلَى الِاقْتِصَارَ عَلَى الدَّالِّ عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ ذُكِرَتْ فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُ الدَّالِّ.
وَقَدْ يُخِلُّ بِذَلِكَ لِمَقْصُودٍ آخَرَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كبيرة إلا أحصاها} وَعَلَى قِيَاسِ مَا قُلْنَا يَنْبَغِي الِاقْتِصَارُ عَلَى صَغِيرَةٍ وَإِنْ ذُكِرَتِ الْكَبِيرَةُ مِنْهَا فَلْتُذْكَرْ أَوَّلًا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولا تنهرهما} وَعَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ يَكْفِي [لَهُمَا أُفٍّ] أَوْ يَقُولُ [وَلَا تَنْهَرْهُمَا] [فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ] وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّأْفِيفِ وَالْعِنَايَةِ بِالنَّهْيِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: نَهَى عَنْهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالْمَفْهُومِ وَأُخْرَى بِالْمَنْطُوقِ.
وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} فإن النوم غشية ثقيلة تقع علىالقلب تَمْنَعُهُ مَعْرِفَةَ الْأَشْيَاءِ وَالسِّنَةُ مِمَّا يَتَقَدَّمُهُ مِنَ النُّعَاسِ فَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} دُونَ ذِكْرِ النَّوْمِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ السِّنَةَ إِنَّمَا لَمْ تَأْخُذْهُ لِضَعْفِهَا وَيُتَوَهَّمَ أَنَّ النَّوْمَ قَدْ يَأْخُذُهُ لِقُوَّتِهِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِنَفْيِ التَّوَهُّمَيْنِ أَوِ السِّنَةُ فِي الرَّأْسِ وَالنُّعَاسُ فِي الْعَيْنِ والنوم في القلب تلخيصه وهو مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ الْمُفَتِّرَاتِ ثُمَّ أَكَّدَ نَفْيَ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ بِقَوْلِهِ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لِأَنَّهُ خَلَقَهُمَا بِمَا فِيهِمَا وَالْمُشَارَكَةُ إِنَّمَا تَقَعُ فِيمَا فِيهِمَا وَمَنْ يَكُنْ لَهُ مَا فِيهِمَا فَمُحَالٌ نَوْمُهُ وَمُشَارَكَتُهُ إِذْ لَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَفَسَدَتَا بِمَا فِيهِمَا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يلزم من نفي النسة نَفْيُ النَّوْمِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَا يَنَامُ وإنما قال: {لا تأخذه} .

الصفحة 404