كتاب البرهان في علوم القرآن (اسم الجزء: 3)

ما لا تعلمون} ، وَإِنَّمَا الْجَوَابُ أَنَّ الِانْتِقَالَ لِلْأَمْدَحِ تَرَقٍّ فَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ الْغَيْبَ وَالشَّهَادَةَ فِي عِلْمِهِ سَوَاءٌ فَنَزَلَ التَّرَقِّي فِي اللَّفْظِ مَنْزِلَةَ تَرَقٍّ فِي الْمَعْنَى لِإِفَادَةِ اسْتِوَائِهِمَا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى. وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جهر به} فَصَرَّحَ بِالِاسْتِوَاءِ.
هَذَا كُلُّهُ فِي الصِّفَاتِ وَأَمَّا الْمَوْصُوفَاتُ فَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّكَ تَبْدَأُ بِالْأَفْضَلِ فَتَقُولُ: قَامَ الْأَمِيرُ وَنَائِبُهُ وَكَاتِبُهُ قَالَ تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} الْآيَةَ. فَقَدَّمَ الْخَيْلَ لِأَنَّهَا أَحْمَدُ وَأَفْضَلُ مِنَ الْبِغَالِ وَقَدَّمَ الْبِغَالَ عَلَى الْحَمِيرِ لِذَلِكَ أَيْضًا.
فَإِنْ قُلْتَ: قَاعِدَةُ الصِّفَاتِ مَنْقُوضَةٌ بِالْقَاعِدَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ فِي كَلَامِهِمْ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَبَى دَهْرُنَا إِسْعَافَنَا فِي نُفُوسِنَا ... وَأَسْعَفَنَا فِيمَنْ نُحِبُّ وَنُكْرِمُ
فَقُلْتُ لَهُ نُعْمَاكَ فِيهِمْ أَتِمَّهَا ... وَدَعْ أَمْرَنَا إِنَّ الْمُهِمَّ الْمُقَدَّمُ
قُلْتُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:" فَقَدَّمَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ "فِيمَا إِذَا كَانَا شَيْئَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ مَقْصُودَيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَهَمُّ مِنَ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ وَأَمَّا تَأَخُّرُ الْأَمْدَحِ فِي الصِّفَاتِ فَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَتَا صِفَتَيْنِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَوْ أَخَّرْنَا الْأَمْدَحَ لَكَانَ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ نَوْعًا مِنَ الْعَبَثِ.
هَذَا كُلُّهُ فِي صِفَاتِ الْمَدْحِ فَإِنْ كَانَتْ لِلذَّمِّ فَقَدْ قَالُوا يَنْبَغِي الِابْتِدَاءُ بِالْأَشَدِّ ذَمًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} قَالَ ابْنُ النَّفِيسِ: فِي كِتَابِ.

الصفحة 406