كتاب البرهان في علوم القرآن (اسم الجزء: 3)

فِي التَّخْيِيلِ وَالتَّشْبِيهِ مَعَ الْإِيجَازِ نَحْوِ لَقِيتُ أَسَدًا وَتَعْنِي بِهِ الشُّجَاعَ.
وَحَقِيقَتُهَا أَنْ تُسْتَعَارَ الكلمة من شيء معروف بها إل شَيْءٍ لَمْ يُعْرَفْ بِهَا وَحِكْمَةُ ذَلِكَ إِظْهَارُ الْخَفِيِّ وَإِيضَاحُ الظَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ بِجَلِيٍّ أَوْ بِحُصُولِ الْمُبَالَغَةِ أَوْ لِلْمَجْمُوعِ.
فَمِثَالُ إِظْهَارِ الْخَفِيِّ، قوله تعالى: {وإنه في أم الكتاب} ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ أَنَّهُ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ فَاسْتُعِيرَ لَفْظُ [الْأُمِّ] لِلْأَصْلِ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ تَنْشَأُ مِنَ الْأُمِّ كَمَا تَنْشَأُ الْفُرُوعُ مِنَ الْأُصُولِ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَمْثِيلُ مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ حَتَّى يَصِيرَ مَرْئِيًّا فَيَنْتَقِلُ السَّامِعُ مِنْ حَدِّ السَّمَاعِ إِلَى حَدِّ الْعِيَانِ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْبَيَانِ.
وَمِثَالُ إِيضَاحِ مَا لَيْسَ بِجَلِيٍّ لِيَصِيرَ جَلِيًّا، قَوْلُهُ تعالى: {واخفض لهما جناح الذل} لِأَنَّ الْمُرَادَ أَمْرُ الْوَلَدِ بِالذُّلِّ لِوَالِدَيْهِ رَحْمَةً فَاسْتُعِيرَ لِلْوَلَدِ أَوَّلًا جَانِبَ ثُمَّ لِلْجَانِبِ جَنَاحَ وَتَقْدِيرُ الِاسْتِعَارَةِ الْقَرِيبَةِ: [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَانِبَ الذُّلِّ] أَيْ اخْفِضْ جَانِبَكَ ذُلًّا.
وَحِكْمَةُ الِاسْتِعَارَةِ فِي هذاجعل مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ مَرْئِيًّا لِأَجْلِ حُسْنِ الْبَيَانِ وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ خَفْضَ جَانِبِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ بِحَيْثُ لَا يُبْقِي الْوَلَدُ مِنَ الذُّلِّ لَهُمَا وَالِاسْتِكَانَةِ مَرْكَبًا احْتِيجَ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ إِلَى مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى فَاسْتُعِيرَ الْجَنَاحُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَحْصُلُ مِنْ خَفْضِ الْجَنَاحِ لِأَنَّ مَنْ مَيَّلَ جَانِبَهُ إِلَى جِهَةِ السُّفْلِ أَدْنَى مَيْلٍ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ خفض جانبه المراد خَفْضٌ يُلْصِقُ الْجَنْبَ بِالْإِبِطِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِخَفْضِ الْجَنَاحِ كَالطَّائِرِ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ:
لَا تَسْقِنِي مَاءَ الْمُلَامِ فَإِنَّنِي ... صَبٌّ قَدِ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بُكَائِي
فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَارُورَةً وَقَالَ: ابْعَثْ إِلَيَّ فِيهَا شَيْئًا مِنْ مَاءِ الْمُلَامِ فَأَرْسَلَ.

الصفحة 433