كتاب البرهان في علوم القرآن (اسم الجزء: 3)

وَقَوْلُهُ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ من يشاء عقيما} ، قَسَّمَ سُبْحَانَهُ حَالَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْوُجُودُ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِمَّا أَنْ يُفْرِدَ الْعَبْدَ بِهِبَةِ الْإِنَاثِ أَوْ بِهِبَةِ الذُّكُورِ أَوْ يَجْمَعُهُمَا لَهُ أَوْ لَا يَهَبُ شَيْئًا. وَقَدْ جَاءَتِ الْأَقْسَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِيَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى أَعْلَى مِنْهَا وَهِيَ هِبَةُ الذُّكُورِ فِيهِ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى أَعْلَى مِنْهَا وَهِيَ وهبتهما جَمِيعًا وَجَاءَتْ كُلُّ أَقْسَامِ الْعَطِيَّةِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَأَفْرَدَ مَعْنَى الْحِرْمَانِ بِالتَّأْخِيرِ، وَقَالَ فِيهِ [يَجْعَلُ] فَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْهِبَةِ لِلتَّغَايُرِ بَيْنَ الْمَعَانِي كقوله: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لجعلناه حطاما} ، فذكر امتداد وإنمائه بِلَفْظِ الزَّرْعِ وَمَعْنَى الْحِرْمَانِ بِلَفْظِ الْجَعْلِ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا بَدَأَ سُبْحَانَهُ بِالْإِنَاثِ لِوُجُوهٍ غَيْرِ مَا سَبَقَ.
أَحَدُهَا: جَبْرًا لَهُنَّ لِأَجْلِ اسْتِثْقَالِ الْأَبَوَيْنِ لِمَكَانِهِنَّ.
الثَّانِي: أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ أَنَّهُ فَاعِلٌ لِمَا يَشَاءُ لَا مَا يَشَاءُ الْأَبَوَانِ فَإِنَّ الْأَبَوَيْنِ لَا يُرِيدَانِ إِلَّا الذُّكُورَ غَالِبًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ فَبَدَأَ بِذِكْرِ الصِّنْفِ الَّذِي يَشَاؤُهُ وَلَا يُرِيدُهُ الْأَبَوَانِ غَالِبًا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَ مَا كَانَتْ تُؤَخِّرُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ أَمْرِ الْبَنَاتِ حَتَّى كَانُوا يَئِدُوهُنَّ أَيْ هَذَا النَّوْعُ الْحَقِيرُ عِنْدَكُمْ مُقَدَّمٌ عِنْدِي فِي الذِّكْرِ.
الرَّابِعُ: قَدَّمَهُنَّ لِضَعْفِهِنَّ وَعِنْدَ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ تَكُونُ الْعِنَايَةُ أَتَمَّ.
وَقِيلَ: لينقل مِنَ الْغَمِّ إِلَى الْفَرَجِ.
وَتَأَمَّلْ كَيْفَ عَرَّفَ سُبْحَانَهُ الذُّكُورَ بَعْدَ تَنْكِيرٍ فَجَبَرَ نَقْصَ الْأُنُوثَةِ بِالتَّقْدِيمِ، وَجَبَرَ نَقْصَ الْمُتَأَخِّرِ بِالتَّعْرِيفِ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ تنويه.

الصفحة 473