كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
وتفويض الْأَمر وَلما تبين للأمير أبي عَليّ اخْتِلَاف أمره بعث إِلَى أَبِيه فِي الصُّلْح على أَن يعوض سجلماسة وَمَا والاها فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وفى لَهُ السُّلْطَان بِمَا اشْترط وارتحل إِلَى سجلماسة سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة فَأَقَامَ بهَا دولة فخيمة وَاسْتولى على بِلَاد الْقبْلَة وَدون الدَّوَاوِين واستلحق واستركب واستخدم ظواعن الْعَرَب من بني معقل وافتتح معاقل الصَّحرَاء وقصور توات وتيكرارين وتامنطيت وَغير ذَلِك
وَأما السُّلْطَان أَبُو سعيد فَإِنَّهُ دخل إِلَى فاس الْجَدِيد وَنزل بقصره وَأصْلح شؤون ملكه وَأنزل ابْنه الْأَمِير أَبَا الْحسن بِالدَّار الْبَيْضَاء من قصوره وفوض إِلَيْهِ فِي سُلْطَانه تَفْوِيض الِاسْتِقْلَال وَأذن لَهُ فِي اتِّخَاذ الوزراء وَالْكتاب وَوضع الْعَلامَة على كتبه وَسَائِر مَا كَانَ لِأَخِيهِ ووفدت عَلَيْهِ بيعات الْأَمْصَار بالمغرب وَرَجَعُوا إِلَى طَاعَته وَفِي سنة خمس عشرَة وَسَبْعمائة أَمر السُّلْطَان أَبُو سعيد بِبِنَاء الْبَاب أَمَام القنطرة من الجزيرة الخضراء ثمَّ بعد ذَلِك أدَار الستارة بِالْمَدِينَةِ الْمَذْكُورَة وفيهَا سَار إِلَى مراكش فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا حَتَّى اصلح شؤونها وَعَاد إِلَى الحضرة
وَفِي سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة نكب السُّلْطَان أَبُو سعيد كَاتبه منديل بن مُحَمَّد الْكِنَانِي وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَنه لما ثار الْأَمِير أَبُو عَليّ على ابيه وخلعه انحاش إِلَيْهِ منديل هَذَا ثمَّ لما اخْتَلَّ أَمر أبي على عَاد منديل إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد وترتب فِي مَنْزِلَته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قبل وَكَانَ الْأَمِير أَبُو الْحسن يحقد عَلَيْهِ لأجل انحياشه إِلَى أَخِيه لما كَانَ بَينهمَا من المنافسة وَكَانَ هُوَ كثيرا مَا يوغر صدر أبي الْحسن بِإِيجَاب حق أَخِيه عَلَيْهِ وامتهانه فِي خدمته فطوى لَهُ أَبُو الْحسن على البث حَتَّى إِذا فصل أَبُو عَليّ إِلَى سجلماسة وَانْفَرَدَ أَبُو الْحسن بِمَجْلِس أَبِيه وخلاله وَجهه أحكم السّعَايَة فِي منديل عِنْد أَبِيه وَكَانَ منديل كثيرا مَا يغْضب السُّلْطَان فِي المحاورة وَالْخطاب دَالَّة عَلَيْهِ وكبرا فاعتد السُّلْطَان عَلَيْهِ بِشَيْء من ذَلِك مَعَ مَا كَانَ ابْنه أَبُو الْحسن يغريه بِهِ فسخطه سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة وَأذن لِابْنِهِ أبي الْحسن فِي نكبته فاعتقله واستصفى أَمْوَاله وطوى ديوانه وامتحنه أَيَّامًا ثمَّ قَتله بمحبسه
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا وَجه السُّلْطَان كَاتبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد الرهوني لجمع أَمْوَال المنقطعين فَجمع مِنْهَا مَا قدر عَلَيْهِ وَعَاد سالما معافى
ثمَّ دخلت سنة أَربع عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا أرسل السُّلْطَان كَاتبه الْمَذْكُور عَاملا على السوس وَمَعَهُ طَائِفَة من الْجند فجبى قبائله وَرجع وأحبه أهل السوس لحسن سيرته ولين جَانِبه وَفِي هَذِه السّنة فِي الْيَوْم الثَّامِن من ربيع الثَّانِي مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الماهر أَبُو عبد الله مُحَمَّد المير السلاوي وَكَانَ من أهل الْمُشَاركَة وَالتَّحْقِيق والخط الْحسن رَحمَه الله
ثمَّ دخلت سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا بعث السُّلْطَان العساكر لبرابرة آيت ومالو وَعقد عَلَيْهَا لِلْكَاتِبِ أبي عبد الله الحكماوي وَبعث مَعَه جمَاعَة من قواد الْجَيْش وقواد الْقَبَائِل فَلم يرْضوا إمارته عَلَيْهِم إِذْ كلهم كَانُوا أسن مِنْهُ وَفِيهِمْ من هُوَ أعرف بأحوال البربر ومكايدهم فخذلوه وَقت اللِّقَاء وجروا عَلَيْهِ الْهَزِيمَة وأستولى البربر على أثاثهم ومدافعهم وجردوا الْكثير مِنْهُم وقبضوا على الْكَاتِب حَتَّى أجاره بعض البربر فأبقوا عَلَيْهِ إِلَى أَن بعثوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان
ثمَّ دخلت سنة سِتّ عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا بعث السُّلْطَان الْجَيْش إِلَى بِلَاد درعة مَعَ كَاتبه أبي الْعَبَّاس أَحْمد آشقراس فَدَخلَهَا وَاسْتولى على قُصُورهَا الْمَغْصُوبَة وَأخرج مِنْهَا الْعَرَب والبربر وجبى أموالها ومهد نَوَاحِيهَا وَأمن سبلها حَتَّى صَار مَا بَين السوس ودرعة والفائجة مجالا للتِّجَارَة وممرا لأبناء السَّبِيل يَغْدُونَ بِهِ وَيَرُوحُونَ آمِنين على أَمْوَالهم وأنفسهم
ثمَّ دخلت سنة سبع عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا بعث السُّلْطَان العساكر إِلَى بِلَاد الرِّيف مَعَ أَخِيه الْمولى عبد الْقَادِر والقائد مُحَمَّد بن خدة الشَّرْقِي وقائد الْعَسْكَر أَحْمد بن الْعَرَبِيّ فجبى قبائل الرِّيف من قلعية وكبدانة وَغَيرهمَا عَن ثَلَاث سِنِين سلفت وَلما رجعت العساكر أغارت على المطالسة وَبني أبي
الْمعلم الحاذق فِي تعريبه وَلَيْسَ ذَلِك بعسير على من وَفقه الله إِلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِبْدَال لفظ عجمي بِلَفْظ عَرَبِيّ بِأَن يَقُول مثلا أَمَام خلف دَائِرَة نصف دَائِرَة وَهَكَذَا فَإِذا مرنوا عَلَيْهِ شهرا أَو شَهْرَيْن كَانَ أسهل شَيْء عَلَيْهِم لِأَن تِلْكَ هِيَ لغتهم الَّتِي فِيهَا نشأوا وَعَلَيْهَا ربوا فَالْعَمَل عجمي وَالْكَلَام الَّذِي ينبهون بِهِ على ذَلِك الْعَمَل عَرَبِيّ فَأَي كلفة فِي هَذَا وَبِه ينْدَفع عَنْهُم التَّشَبُّه بالعجم الْمنْهِي عَنهُ شرعا فَإِن التزيي بزيهم لَا يَأْتِي بِخَير أبدا وَهُوَ وَالله من أفسد الْأَشْيَاء للدّين الَّذِي نُرِيد أَن نحوطه بهم
قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ من لم تصلحه السّنة فَلَا أصلحه الله ثمَّ عَمُود هَذَا كُله وصلبه الْعَقِيم لَهُ وروحه الَّذِي بِهِ حَيَاته هُوَ الْكِفَايَة فِي الْمطعم والملبس وليختر لَهُم من الأغذية أطيبها وأنفعها للبدن وليجعل لَهُم كسوتان كسْوَة الشتَاء وَكِسْوَة الصَّيف وليتخير لَهُم من المساكن والمنازل أطيبها وَأَصْلَحهَا هَوَاء وأبعدها عَن مَحل الوخم وليلزمهم بالاعتناء بتنظيف مساكنهم وتبريدها وتطييبها حَتَّى لَا ينشأ عَنْهَا دَاء وَإِذا تراخوا فِي مثل ذَلِك عوقبوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ دَال على دناءة الهمة ودنيء الهمة لَا يَأْتِي مِنْهُ شَيْء وليرتب لَهُم الْأَطِبَّاء العارفون حَتَّى إِذا أصَاب أحدا مِنْهُم مرض عالجه الطَّبِيب فِي الْحَال فَإِن هَذَا الْجند هُوَ سور الْإِسْلَام وسياج الدّين فبحفظه يحفظ الدّين وبسلامته يسلم فَإِذا اتخذ الْجند على هَذِه الْكَيْفِيَّة الَّتِي ذكرنَا سهل على النَّاس الدُّخُول فِي الجندية وتنافسوا فِيهَا وَمن كَانَ عِنْده من الرّعية دِرْهَم طابت نَفسه بِأَن يقتسمه مَعَهم وَيكون الْجند حِينَئِذٍ فِي مرتبَة هِيَ أشرف من مرتبَة الرّعية بِكَثِير لِأَن الْجند يحفظهم والرعية تكسب وتبذل لَهُم ثمَّ إِذا ظهر من آحَاد الْجند نجابة أَو شجاعة أَو نصيحة فِي الْخدمَة السُّلْطَانِيَّة رفع قدره ونوه باسمه ليغتبط هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ ويزداد فِي خدمته ويغبطه غَيره وينافسه فِي خصاله الَّتِي أكسبته تِلْكَ الْمنزلَة وليقس مَا لم يقل وَالله الْهَادِي إِلَى التَّوْفِيق بمنه ولنرجع إِلَى التَّارِيخ فَنَقُول
وَفِي سنة سبع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّانِي عشر
الصفحة 107