كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

وَلما رأى أهل الأندلس ذَلِك بعثوا صريخهم إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد فَقدم عَلَيْهِ وفدهم بِحَضْرَتِهِ من فاس وَفِيهِمْ من وُجُوه الأندلس وصلحائها الشَّيْخ أَبُو عبد الله الطنجالي وَالشَّيْخ ابْن الزيات البلشي وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق بن أبي الْعَاصِ وَغَيرهم فَاعْتَذر إِلَيْهِم السُّلْطَان أَبُو سعيد بمَكَان عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء من دولتهم وَمحله من دَار ملكهم وَكَانَ عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء يتَوَلَّى يَوْمئِذٍ مشيخة الْغُزَاة بالأندلس لِأَن وَفَاته تَأَخَّرت إِلَى سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة حَسْبَمَا مر فَشرط عَلَيْهِم السُّلْطَان أَبُو سعيد أَن يمكنوه مِنْهُ ليتأتى لَهُ العبور إِلَى تِلْكَ الْبِلَاد وَجِهَاد الْعَدو بهَا من غير تشويش وَقَالَ ادفعوه إِلَيْنَا برمتِهِ حَتَّى يتم أَمر الْجِهَاد ثمَّ نرده عَلَيْكُم حياطة على الْمُسلمين وخشية من تَفْرِيق كلمتهم فاستصعب أهل الأندلس هَذَا الشَّرْط لما يعلمونه من صرامة عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء وإدلاله ببأسه وبأس عشيرته فأخفق سَعْيهمْ وَرَجَعُوا منكسرين وأطالت الفرنج الْمقَام على غرناطة وطمعوا فِي التهامها
ثمَّ إِن الله تَعَالَى نفس عَن مخنقهم ودافع بقدرته عَنْهُم وهيأ لعُثْمَان بن أبي الْعَلَاء فِي الفرنج وَاقعَة كَانَت من أغرب الوقائع وَذَلِكَ أَنه لما كَانَ يَوْم المهرجان وَهُوَ الْخَامِس من جُمَادَى الأولى من سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة عمد عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء إِلَى جمَاعَة جنده وَاخْتَارَ من أنجاد بني مرين مِنْهُم نَحْو الْمِائَتَيْنِ وَقيل أَكثر وَتقدم بهم نَحْو جَيش الفرنج فَظن النَّصَارَى أَنهم إِنَّمَا خَرجُوا لأمر غير الْقِتَال من مُفَاوَضَة أَو إبلاغ رِسَالَة أَو نَحْو ذَلِك حَتَّى إِذا سامتوا موقف الطاغية ورديفه جوان صمموا نَحْوهمَا حَتَّى خالطوهما فِي مراكزهما فصرعوهما فِي جملَة من الْحَاشِيَة وَانْهَزَمَ ذَلِك الْجمع من حِينه وولوا الأدبار واعترضهم من ورائهم مسارب المَاء للشُّرْب على نهر شنيل فتطارحوا فِيهَا وَهلك أَكْثَرهم واكتسحت أَمْوَالهم وتبعهم الْمُسلمُونَ يقتلُون وَيَأْسِرُونَ ثَلَاثَة أَيَّام وَخرج أهل غرناطة لجمع الْأَمْوَال وَأخذ الأسرى فاستولوا على أَمْوَال عَظِيمَة مِنْهَا من الذَّهَب فِيمَا قيل ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ قِنْطَارًا وَمن الْفضة مائَة وَأَرْبَعُونَ قِنْطَارًا وَمن السَّبي سَبْعَة آلَاف نفس حَسْبَمَا كتب بذلك بعض الغرناطيين إِلَى الديار المصرية وَكَانَ من جملَة الْأُسَارَى امْرَأَة الطاغية وَأَوْلَاده
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا عزل السُّلْطَان الْقَائِد أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد اليموري عَن فاس وَولى عَلَيْهَا صهره الْمولى حبيب بن عبد الْهَادِي فَقَامَ بهَا أحسن قيام وَكَانَ ذَا عقل ومروءة وسمت ودهاء وفيهَا توجه السُّلْطَان فِي العساكر إِلَى مراكش وَلما احتل بهَا بعث جَيْشًا إِلَى السوس لنظر الْكَاتِب أبي عبد الله الرهوني وَبعث جَيْشًا آخر إِلَى عَامل حاحة لنظر أبي الْعَبَّاس أَحْمد اليموري ثمَّ خرج السُّلْطَان فِي جَيش ثَالِث إِلَى ثغر الصويرة لمشاهدتها وَالْوُقُوف على آثَار وَالِده بهَا فَانْتهى إِلَيْهَا وَأقَام بهَا أَيَّامًا وَفرق المَال على جندها أحرارا وعبيدا وَنظر فِي أُمُور مرْسَاها وَأمر بإصلاح مَا لَا بُد مِنْهُ فِيهَا وَعَاد إِلَى الغرب مؤيدا منصورا
فتْنَة الْفَقِير أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر ابْن الشريف الفليتي واستحواذه على تلمسان وبيعته للسُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وَالسَّبَب فِي ذَلِك

لما كَانَت سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف هَاجَتْ الْفِتْنَة بَين عرب تلمسان وَالتّرْك وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن باي وهران كَانَ لَهُ انحراف عَن الْفُقَرَاء والمنتسبين وَسُوء اعْتِقَاد فيهم فَقتل بعض الطَّائِفَة الدرقاوية وَأمر بِالْقَبْضِ على مقدمهم أبي مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن الشريف الفليتي تلميذ الشَّيْخ الْأَكْبَر أبي عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْعَرَبِيّ بن أَحْمد الدرقاوي شيخ الطَّائِفَة الْمَذْكُورَة ففر أَبُو مُحَمَّد عبد الْقَادِر الْمَذْكُور إِلَى الصَّحرَاء وَنزل بحلة الْأَحْرَار فَاجْتمع عَلَيْهِ أهل طائفته وامتعضوا لمن قتل مِنْهُم ولنفي مقدمهم عَن وَطنه وعشيرته وامتعضت لَهُم عَشَائِرهمْ من قبائل الْعَرَب الَّذِي هُنَالك وزحفوا لِحَرْب التّرْك على حِين غَفلَة مِنْهُم فَقَتَلُوهُمْ فِي كل وَجه
وَلما دخل فصل الرّبيع من السّنة الْمَذْكُورَة بعث صَاحب الجزائر عسكرا إِلَى باي وهران وَأمره بغزو الْعَرَب فَنَهَضَ إِلَيْهِم وَوَقعت الْحَرْب بَينه
تكون غنيمَة لَهُ وَقَالَ لَهُم اتَّخذُوا الشكائم أَي الأرسان من الدوم وأعدوها لتقودوا بهَا خيل السُّلْطَان فَاتخذ جمع عَظِيم من الْعَامَّة الحبال والأرسان وتوشحوا بهَا تَحت الثِّيَاب وَجعلُوا يتبعُون الروكي أَيْنَمَا ذهب انتظارا لوعده وَلما قرب الْمولى الرشيد مِنْهُ أَخذ أمره فِي النُّقْصَان وناموسه فِي الْبطلَان وَلما كَانَ الْمولى الرشيد قرب سوق الْأَرْبَعَاء من بِلَاد سُفْيَان جعل الشكائمية يقربون من الْمحلة ويتطوفون حولهَا مختفين بالأودية والشعاب والكدى ينتظرون هزيمتها بخارق من خوارق دجالهم فَأعْلم الْمولى الرشيد بمكانهم فَبعث الْخَيل فالتقطوهم فِي سَاعَة وَاحِدَة وَلم يفلت مِنْهُم إِلَّا الْقَلِيل وسيقوا إِلَى رِبَاط الْفَتْح فسجنوا بِهِ مُدَّة وَأما الروكي فَإِنَّهُ قصد جبل زرهون وَدخل رَوْضَة الْمولى إِدْرِيس الْأَكْبَر رَضِي الله عَنهُ فَاجْتمع عَلَيْهِ جمَاعَة من الْأَشْرَاف الأدارسة والعلويين وغلقوا أَبْوَاب الْقبَّة وَتقدم إِلَيْهِ شرِيف علوي ففتك فِيهِ وأراح النَّاس من شَره واحتزوا رَأسه وَيَده وحملوهما إِلَى السُّلْطَان فَبعث بهما إِلَى مراكش فعلقا بِجَامِع الفناء مُدَّة وَكَانَ جهلة الْعَوام لَا يصدقون بِمَوْتِهِ وبقوا ينتظرون رجعته سنتَيْن أَو ثَلَاثًا {وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد} الرَّعْد 33 وَكَانَ مقتل الروكي فِي أواسط شعْبَان سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلم تجَاوز مدَّته أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَ مِمَّا كتبه السُّلْطَان فِي شَأْنه مَا نَصه وَبعد فَإِن فتانا من سُفْيَان مرق من الدّين وَفتن بِأُمُور شيطنته من اغْترَّ بِهِ من الْمُسلمين وَجمع عَلَيْهِ أوباشا من أَمْثَاله وَأَضْرَابه وأشكاله وَتقدم بهم لدار خديمنا ابْن عودة فَقَتَلُوهُ ثمَّ تقدم بهم للشراردة فقاتلوه ثمَّ تقدم بهم لزاوية مَوْلَانَا إِدْرِيس فقاتله أَهلهَا قتالا يُرْضِي الله وَرَسُوله وَلم يحصل لَهُم من قِتَاله ضجر ثمَّ قبضوا عَلَيْهِ وقتلوه وعلقوا رَأسه بِبَاب الزاوية الْمُسَمّى بِبَاب الْحجر وَأَغْلقُوا الْأَبْوَاب بعد ذَلِك على من دخل مَعَه من أَتْبَاعه وأنصاره وأشياعه فقبضوا عَلَيْهِم وجعلوهم فِي السلَاسِل والأغلال وَنحن على نِيَّة إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِم إِن شَاءَ الله جَزَاء وفَاقا على مَا ارتكبوه من الْفساد وقبيح الْأَعْمَال وَمن كَانَ مِنْهُم حِينَئِذٍ خَارِجا عَن الْبَاب تخطفته الْأَيْدِي وجنوا ثمار مَا سعوا فِيهِ من الْبَغي والتعدي وَقطع دابر جَمِيعهم فَالْحَمْد لله حق حَمده وَمَا كل نعْمَة إِلَّا

الصفحة 109