كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

وَبَقِي بَنو عبد الْمُؤمن من أثْنَاء ذَلِك فِي مرض من الْأَيَّام وتثاقل عَن الحماية ثمَّ أَوْمَضْت دولتهم إيماضة الخمود وَذَلِكَ أَنه لما هلك الرشيد بن الْمَأْمُون سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة وَولي أَخُوهُ عَليّ وتلقب بالسعيد وَبَايَعَهُ أهل الْمغرب انصرفت عَزَائِمه إِلَى غَزْو بني مرين وَقطع أطماعهم عَمَّا سمت إِلَيْهِ من تملك المواطن فَجهز عَسَاكِر الْمُوَحِّدين لقتالهم وَمَعَهُمْ قبائل الْعَرَب والمصامدة وجموع الفرنج فنهضوا سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فِي جَيش كثيف يناهز عشْرين ألفا فَسمع الْأَمِير أَبُو مَعْرُوف بِإِقْبَالِهِمْ فاستعد لقتالهم وزحف إِلَيْهِم فَكَانَ اللِّقَاء بِموضع يعرف بصخرة أبي بياش من أحواز فاس فدارت بَينهم حَرْب شَدِيدَة وصبر الْفَرِيقَانِ وَلما كَانَ عشي النَّهَار قتل الْأَمِير أَبُو معرف بن عبد الْحق فِي الجولة بيد زعيم من زعماء الفرنج تحاملا فعثر فرس أبي معرف بِهِ وأمكنت العلج فِيهِ الفرصة فاغتنمها وطعنه فَمَاتَ فانهزمت بَنو مرين وتبعهم الموحدون فاتخذوا اللَّيْل جملا وأسروا طول ليلتهم بحللهم وعيالاتهم وَأَمْوَالهمْ فَأَصْبحُوا بجبال غياثة من نواحي تازا فَاعْتَصمُوا بهَا أَيَّامًا ثمَّ خَرجُوا إِلَى بِلَاد الصَّحرَاء وولوا عَلَيْهِم أَبَا بكر بن عبد الْحق على مَا نذكرهُ وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة وهلاك الْأَمِير أبي معرف عَشِيَّة يَوْم الْخَمِيس تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
الْخَبَر عَن دولة الْأَمِير أبي بكر بن عبد الْحق رَحمَه الله

هَذَا الْأَمِير هُوَ الَّذِي رفع من راية بني مرين وسما بهَا إِلَى مرتبَة الْملك وكنيته أَبُو يحيى وَهُوَ أول من جند الْجنُود مِنْهُم وَضرب الطبول وَنشر البنود وَملك الْحُصُون والبلاد واكتسب الطارف والتلاد بَايعه بَنو مرين بعد مهلك أَخِيه أبي معرف فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم فَكَانَ أول مَا ذهب إِلَيْهِ وَرَآهُ من النّظر لِقَوْمِهِ أَن قسم بِلَاد الْمغرب وقبائل جبايته بَين بني مرين وَأنزل كلا مِنْهُم يناحية مِنْهُ سوغهم إِيَّاهَا سَائِر الْأَيَّام طعمة لَهُم وَأمر كل وَاحِد من أَشْيَاخ بني مرين أَن يستركب الرجل ويستلحق الأتباع فحسنت حَالهم وَكَثُرت غاشيتهم وتوفرت جموعهم
خُرُوج السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله إِلَى الثغور وتفقده أحوالها

ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وَمِائَة وَألف فِيهَا خرج أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى مُحَمَّد بن عبد الله من مراكش فَقدم مكناسة وَفرق الرَّاتِب على العبيد بهَا وَبعث إِلَى الودايا راتبهم وَأمرهمْ بالنهوض مَعَه للتطواف على الثغور البحرية من بِلَاد الْمغرب
فَخرج من مكناسة حَتَّى أَتَى مَدِينَة تطاوين فَنزل بهَا وَأمر بِبِنَاء برج مرتيل الَّذِي بهَا وَفرق المَال على العبيد المقيمين بِهِ مُنْذُ أَيَّام السُّلْطَان إِسْمَاعِيل وهم بَقِيَّة عبيد سبتة أَعنِي الَّذين كَانُوا يرابطون عَلَيْهَا فَإِنَّهُ لما انحل نظام الْملك بِمَوْت الْمولى إِسْمَاعِيل وتفرق العبيد المرابطون على سبتة فلحقت كل طَائِفَة مِنْهُم بقبيلتها الَّتِي جلبت مِنْهَا بَقِي هَذَا الْألف الَّذِي لَا قَبيلَة لَهُ هُنَالك فنقلهم أَبُو حَفْص الوقاش إِلَى مرتيل وَأحسن إِلَيْهِم وَصَارَ يدْفع بهم فِي نحر من يُريدهُ بمكورة من الْقَبَائِل الْمُجَاورَة لَهُ
ثمَّ رَحل السُّلْطَان من تطاوين إِلَى طنجة وَجعل طَرِيقه على سبتة فَمر بهَا ووقف عَلَيْهَا وَنظر إِلَى حصانتها ومناعتها وَتحقّق أَن لَا مطمع فِيهَا إِلَّا بالجد وَأمر الْعَسْكَر الَّذين حوله بِإِخْرَاج دفْعَة من البارود وتسميها الْعَامَّة حاضرونا فَفَعَلُوا وأجابهم النَّصَارَى بِمثل ذَلِك بالمدافع والكور حَتَّى تزلزلت الْجبَال فَعجب السُّلْطَان من ذَلِك وَمَا كَانَ قَصده بِهَذِهِ السفرة إِلَّا الْوُقُوف على سبتة واختبار حَالهَا لِأَنَّهُ لم ينظر إِلَيْهَا بِعَين التَّأَمُّل والاختبار فِي الْمرة الأولى فَلَمَّا تبين لَهُ حَالهَا أرجأ أمرهَا إِلَى يَوْم مَا وَأوصى أهل آنجرة بِتَعْيِين حِصَّته من الرُّمَاة لحراسة نَوَاحِيهَا وَالْوُقُوف على حُدُودهَا وبذل لَهُم مَالا يستعينون بِهِ على ذَلِك ثمَّ سَار إِلَى طنجة فَنزل قَرِيبا مِنْهَا وَخرج إِلَيْهِ أعيانها ورؤساؤها من أهل الرِّيف بقضهم وقضيضهم يتقدمهم باشاهم عبد الصَّادِق بن أَحْمد بن عَليّ الريفي كَانَ قد قدم عَلَيْهِ بمراكش أَيَّام خِلَافَته
فتْنَة إِبْرَاهِيم بن يزِيد فَأتى بِهِ من سجن الجزيرة فَضربت عُنُقه وَنصب رَأسه على بَاب الْخَمِيس من مراكش وَكَانَ مسجونا مَعَه أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب البياز الفاسي فَأخْرجهُ السُّلْطَان من السجْن وَمن عَلَيْهِ إِذْ لم يكن على مَذْهَب ابْن سُلَيْمَان بل كَانَ صَاحب مُرُوءَة وجد فِي الْأُمُور وَلذَلِك استخدمه السُّلْطَان رَحمَه الله فَجعله أَمينا على مرسى طنجة أَولا ثمَّ ولاه على فاس ثَانِيًا وَالله تَعَالَى أعلم
نكبة ابْن الْغَازِي الزموري وَمَا آل إِلَيْهِ أمره

قد قدمنَا أَن الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي الزموري كَانَ قد بَايع السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وسعى فِي سراح الشَّيْخ أبي عبد الله الدرقاوي رَضِي الله عَنهُ وَأَن السُّلْطَان استخلصه وصاهره بِإِحْدَى حظايا عَمه الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله لما وصل مَعَه إِلَى مراكش ثمَّ اضْطربَ كَلَام أكنسوس فِي أَن السُّلْطَان قبض على ابْن الْغَازِي فِي أول قدمة قدمهَا مَعَه إِلَى مراكش أَو بعْدهَا وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن ابْن الْغَازِي الْمَذْكُور كَانَت لَهُ دَالَّة على السُّلْطَان قد جَاوَزت الْحَد الَّذِي يَنْبَغِي أَن تسير بِهِ الرّعية مَعَ الْمُلُوك وَكَانَت عَادَته أَن يحضر بِالْغَدَاةِ والعشي إِلَى بَاب السُّلْطَان كَغَيْرِهِ من كبار الدولة ووجوهها على الْعَادة فِي ذَلِك فَلَمَّا كَانَ فِي بعض اللَّيَالِي وَهُوَ رَاجع إِلَى منزله رصده بعض العبيد بِالطَّرِيقِ فَرَمَاهُ برصاصة فأخطأه فوصل إِلَى منزله وَقد ارتاب بالسلطان فَمن دونه من أهل الدولة وَحَمَلته دالته على أَن أطلق لِسَانه وأبرق وأرعد وتألى وأوعد وَبلغ ذَلِك السُّلْطَان فأغضى لَهُ عَنْهَا ثمَّ أفْضى بِهِ التهور إِلَى أَن انْقَطع عَن الْحُضُور بِبَاب السُّلْطَان غَضبا على الدولة فَأطَال لَهُ السُّلْطَان الرسن كي يرجع فَلم يرجع وَبلغ السُّلْطَان أَنه يحتال فِي الْفِرَار فعاجله بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَبعث بِهِ إِلَى جَزِيرَة الصويرة الَّتِي هِيَ سجن أهل الجرائم الْعِظَام فسجن بهَا مُدَّة ثمَّ أصبح ذَات يَوْم مَيتا وَذَلِكَ فِي سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف على مَا قيل

الصفحة 11