كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

ولي عَهده وَجَاء هُوَ على ساقته وَسَارُوا على هَذِه التعبية وَلما انْتَهوا إِلَى وَادي ملوية اتَّصل بهم الْخَبَر أَن أَبَا عَليّ يُرِيد أَن يبيتهم فأسهروا ليلتهم وَبَاتُوا على ظُهُور خيلهم وَبعد مُضِيّ جُزْء من اللَّيْل طرقهم أَبُو عَليّ فِي جموعه فَكَانَت الدبرة عَلَيْهِ وفل عسكره وَارْتَحَلُوا من الْغَد فِي أَثَره وَكَانَ قد سلك جبل درن فافترقت جُنُوده فِي أوعاره ولحقهم من المشاق مَا يفوت الْوَصْف حَتَّى ترجل الْأَمِير أَبُو عَليّ عَن فرسه وسعى على قَدَمَيْهِ وخلص من ورطة ذَلِك الْجَبَل بعد عصب الرِّيق وَلحق بسجلماسة ومهد السُّلْطَان أَبُو سعيد نواحي مراكش وَعقد عَلَيْهَا لمُوسَى بن عَليّ الهنتاتي فَعظم غناؤه فِي ذَلِك واضطلاعه وامتدت أَيَّام ولَايَته وارتحل السُّلْطَان إِلَى سجلماسة فدافعه الْأَمِير أَبُو عَليّ بالخضوع وَرغب إِلَيْهِ فِي الصفح وَالرِّضَا وَالْعود إِلَى السّلم فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى ذَلِك لما كَانَ قد شغفه من حبه فقد كَانَ يُؤثر عَنهُ من ذَلِك غرائب وَرجع إِلَى الحضرة وَأقَام الْأَمِير أَبُو عَليّ بمكانه وَمن مملكه الْقبْلَة إِلَى أَن هلك السُّلْطَان أَبُو سعيد وتغلب عَلَيْهِ أَخُوهُ السُّلْطَان أَبُو الْحسن كَمَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
بِنَاء مدارس الْعلم بِحَضْرَة فاس حرسها الله

قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق رَحمَه الله كَانَ قد بنى مدرسته الَّتِي بفاس مَعَ غَيرهَا مِمَّا سبق التَّنْبِيه عَلَيْهِ ووقف عَلَيْهَا كتب الْعلم الَّتِي بعث بهَا إِلَيْهِ الطاغية سانجة عِنْد عقد الصُّلْح مَعَه ووقف عَلَيْهَا غير ذَلِك واقتفى أَثَره فِي هَذِه المنقبة الشَّرِيفَة بنوه من بعده فاستكثروا من بِنَاء الْمدَارِس العلمية والزوايا والربط ووقفوا عَلَيْهَا الْأَوْقَاف المغلة وأجروا على الطّلبَة بهَا الجرايات الكافية فأمسكوا بِسَبَب ذَلِك من رَمق الْعلم وأحيوا مراسمه وَأخذُوا بضبعيه جزاهم الله عَن نيتهم الصَّالِحَة خيرا
وَلما كَانَت سنة عشْرين وَسَبْعمائة أَمر السُّلْطَان أَبُو سعيد رَحمَه الله بِبِنَاء الْمدرسَة الَّتِي بفاس الْجَدِيد فبنيت أتقن بِنَاء وَأحسنه ورتب فِيهَا الطّلبَة لقِرَاءَة
وَبَين ابْن الشريف فِي وسط الْمَدِينَة وَعظم الْخطب وَاشْتَدَّ الكرب وَقدم الشَّيْخ على السُّلْطَان بوفد أهل تلمسان وَالْعرب وهدية ابْن الشريف وبيعته وَأخْبرهُ بِأَن النَّاس فِي شدَّة من أَمر التّرْك وَأَنَّهُمْ قد تطارحوا على بَابه وعلقت آمالهم بِهِ وراموا الاستظلال بِظِل عدله فَرَأى السُّلْطَان رَحمَه الله أَن يسْلك فِي حَقهم وَحقّ التّرْك مسلكا هُوَ أرْفق بِالْجَمِيعِ فَبعث الْقَائِد أَبَا السرُور عياد بن أبي شفرة الوديي وَأمره أَن يحجز بَين الْحَضَر وَالتّرْك حَتَّى يقدم الباي إِلَى تلمسان ورد مَعَه الْوَفْد الَّذين قدمُوا مَعَ الشَّيْخ وَتقدم إِلَيْهِ فِي الْقَبْض على ابْن الشريف إِن هُوَ لم يرجع عَن الْحَرْب إِلَى السّلم ثمَّ كتب السُّلْطَان إِلَى الباي بِمَا أَزَال شكه وأبطل وهمه وَلما شَارف الْقَائِد عياد تلمسان فر الشريف إِلَى منجاته وَدخل الْقَائِد عياد الْمَدِينَة فحجز بَين الْفَرِيقَيْنِ وَقدم الباي إِلَى تلمسان فَأصْلح بَينه وَبَين رَعيته ومكنه من بَلَده وانقلب إِلَى حَال سَبيله وَمَعَ ذَلِك لم يتم للترك مَا أَرَادوا من أجل الْقَحْط الَّذِي كَانَ قد عَم حَتَّى عدمت الأقوات وجلا أهل تلمسان عَنْهَا إِلَى بِلَاد الْمغرب وَكَذَا عربها وَأهل جبالها كلهم جلوا عَن أوطانهم حَتَّى لم يبْق لباشا التّرْك مَعَ من يتَكَلَّم فضلا عَن أَن يتأمر فَجعل يكْتب إِلَى السُّلْطَان ويرغب إِلَيْهِ أَن يرد عَلَيْهِ أهل تلمسان وعربها فَكَلَّمَهُمْ السُّلْطَان رَحمَه الله فِي الرُّجُوع فَأَبَوا وَقَالُوا نَذْهَب إِلَى بِلَاد النَّصَارَى وَلَا نجاور التّرْك فنجمع علينا الْجُوع وَالْقَتْل فرق لَهُم السُّلْطَان وتركهم بل جبرهم بِأَن صَار يعينهم بالعطاء ويتخولهم بالصدقات الْمرة بعد الْمرة حَتَّى كَانَ عطاؤه إيَّاهُم كالراتب الْمَفْرُوض وعالج داءهم مَعَ التّرْك إِلَى أَن أخصبت بِلَادهمْ ورخصت أسعارهم فتراجعوا حِينَئِذٍ إِلَى أوطانهم وَكتب السُّلْطَان إِلَى الباي فِي شَأْنهمْ بِالْعَدْلِ وَحسن السِّيرَة فامتثل وكف أَيدي الكرغلية عَنْهُم وَلم يبْق مِنْهُم بالمغرب إِلَّا من كَانَ عَلَيْهِ دين للترك فَلم يقدر على الرُّجُوع لِأَن أَرْبَاب الدُّيُون لَا يُقِيمُونَ لَهُم وزنا وَلَا يعْملُونَ مَعَهم شرعا وَالله أعلم
مُحَمَّد أَبُو بكر عمر عُثْمَان عَليّ وَنَصّ الِافْتِتَاح الْحَمد لله الَّذِي تدارك الْأمة باللطف الْكَفِيل بتمهيد أقطارها وتيسير أوطارها وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه الَّذين نصروا الدّين بالصفاح والأسنة وأوضحوا أَحْكَام السّنة أخانا الْأَعَز الأرضى مولَايَ الرشيد أصلحك الله وأعانك وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإِنَّهُ لما تَوَاتَرَتْ الأنباء المحققة بعد التباسها وتواردت الْأَخْبَار الَّتِي يُغني نَصهَا عَن قياسها بِمَا ارْتَكَبهُ ظالموا أنفسهم الرحامنة من أَنْوَاع الْفساد الَّتِي أذاعوها وأظهروها وأشاعوها وَقد كَانَت فِي صُدُورهمْ كامنة صرفنَا الوجهة إِلَيْهِم وطوينا المراحل من أَجلهم وَلما حللنا ببلادهم أرسلنَا عَلَيْهِم سيل العرم من العساكر المنصورة والجيوش الموفورة فَمَا كَانَ غير بعيد حَتَّى أَتَوا برؤوس مِنْهُم كَثِيرَة مَحْمُولَة على أسنة الرماح وأسارى من مُقَاتلَتهمْ مجردين من الثِّيَاب وَالسِّلَاح وَمن نجى مِنْهُم رَجَعَ مُجَردا إِلَّا من خيبة سَعْيه وَمَا سقِِي إِلَّا بكأس بغيه واستولت العساكر والأجناد على جَمِيع مَا كَانَ عِنْد أهل الْفساد وَمن الْمَعْلُوم أَن من سل سيف الْبَغي يعود إِلَى نَحره وَمن ركب متن الشقاق يغرق فِي بحره وَأَن الْفِتْنَة نَار تحرق من أوقدها والمخالفة صَفْقَة تعود بالخسارة على من عقدهَا وَلما أردنَا معادوتهم لقطع دابرهم وتشتيت مَا بَقِي من رماد أَثَرهم تعلقوا بالمرابطين من ذَوي الوجاهات وَأَكْثرُوا من الذَّبَائِح على الْمحَال وتوجيه العارات وَقَامُوا بِوَاجِب السّمع وَالطَّاعَة فِي كل مَا أمرناهم بِهِ جهد الِاسْتِطَاعَة فأبقينا عَلَيْهِم وَإِن عَادَتْ الْعَقْرَب عدنا بحول الله لَهَا وَكَانَت النَّعْل لَهَا حَاضِرَة فَالْحَمْد لله الَّذِي خيب آمالهم وأبطل أَعْمَالهم وخذل أنصارهم وأركد أعمارهم لما اعمى أَبْصَارهم وردهم ناكصين على الأعقاب بعد سلب الْأَمْوَال وَقطع الرّقاب {ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب} الْأَنْفَال 13 ونعوذ بِاللَّه من الآراء المعكوسة والحظوظ المنكوسة وَسُوء الْفِعْل الَّذِي يُورد المهالك والحرمان الَّذِي يَجْعَل الْبَصِير كالأعمى فِي دجنة اللَّيْل الحالك هَذَا ويصلكم مَا قطع من رُؤُوس قتلاهم لتتعلق بِبَاب الْمَدِينَة وَيعْتَبر بهَا المعتبرون ويتذكر بهَا

الصفحة 111