كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
أَخْبَار بني العزفي أَصْحَاب سبتة
قد تقدم لنا أَن الرئيس أَبَا سعيد فرج بن إِسْمَاعِيل بن الْأَحْمَر صَاحب مالقة كَانَ قد غدر بِأَهْل سبتة وَقبض على رؤسائها من بني العزفي وغربهم إِلَى غرناطة سنة خمس وَسَبْعمائة فاستقروا هُنَالك فِي إيالة السُّلْطَان ابْن الْأَحْمَر الْمَعْرُوف بالمخلوع مُدَّة وَلما استولى السُّلْطَان أَبُو الرّبيع المريني على سبتة وَنفى بني الْأَحْمَر عَنْهَا استأذنه بَنو العزفي فِي الرُّجُوع إِلَى الْمغرب والقدوم عَلَيْهِ فَأذن لَهُم واستقروا بفاس وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى وَأَبُو زيد عبد الرَّحْمَن ابْنا أبي طَالب عبد الله بن أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس احْمَد العزفي من سرواتهم وَأهل الْمُرُوءَة وَالدّين فيهم وَكَانُوا يغشون مجَالِس الْعلم بِمَسْجِد الْقرَوِيين من فاس لما كَانُوا عَلَيْهِ من انتحاله وَكَانَ السُّلْطَان أَبُو سعيد أَيَّام ولَايَة بني أَبِيه من قبله يحضر مجْلِس الشَّيْخ الْفَقِيه أبي الْحسن الصَّغِير وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي طَالب يلازمه ويتودد إِلَيْهِ فاتصل بِهِ وَصَارَت لَهُ بذلك وَسِيلَة عِنْده فَلَمَّا أفْضى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي سعيد رعى لبني العزفي تِلْكَ الْوَسِيلَة فأنعم عَلَيْهِم وَعقد لأبي زَكَرِيَّاء مِنْهُم على سبتة وردهم إِلَى موطن سلفهم ومقر رياستهم فقدموها سنة عشر وَسَبْعمائة وَأَقَامُوا فِيهَا دَعْوَة السُّلْطَان أبي سعيد والتزموا طَاعَته
وَلما فوض السُّلْطَان أَبُو سعيد إِلَى ابْنه ابي عَليّ الْأَمر وَجعل لَهُ الإبرام والنقض عقد أَبُو عَليّ على سبتة لأبي زَكَرِيَّاء حيون بن أبي الْعَلَاء الْقرشِي وعزل أَبَا زَكَرِيَّاء يحيى بن أبي طَالب مِنْهَا واستقدمه إِلَى فاس فَقَدمهَا هُوَ وَأَبوهُ أَبُو طَالب وَعَمه أَبُو حَاتِم واستقروا فِي جملَة السُّلْطَان وَهلك أَبُو طَالب بفاس أثْنَاء تِلْكَ الْمدَّة ثمَّ كَانَ من خُرُوج الْأَمِير أبي عَليّ على أَبِيه وانتقاضه عَلَيْهِ مَا قدمْنَاهُ فلحق أَبُو زَكَرِيَّاء بن أبي طَالب وَأَخُوهُ أَبُو زيد بالسلطان أبي
من غير قتال وَتركُوا أثقالهم بيد الْعَدو وَلم يجتمعوا إِلَّا على وَادي ملوية وَمن هُنَاكَ انفض الأحلاف إِلَى بِلَادهمْ ووقف باعقيل بالجيش وأحجم عَن الْقدوم خوفًا من السُّلْطَان فَبعث إِلَيْهِ من قبض عَلَيْهِ وَأَتَاهُ بِهِ فنكبه وعزله عَن فاس وَولى عَلَيْهَا وصيفه ابْن عبد الصَّادِق ثمَّ عَزله وَولى عَلَيْهَا مُحَمَّد واعزيز
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بالعساكر إِلَى تادلا يُرِيد بني مُوسَى وآيت أعتاب ورفالة وَبني عياط الذّبْح آووا بني مُوسَى فَبَثَّ السُّلْطَان عَلَيْهِم العساكر فنهبوا بني مُوسَى وَمن آواهم من رفالة وَبني عياط وأحرقوا مداشرهم وَقَطعُوا أَشْجَارهم وأبلغوا فِي النكاية إِلَى أَن أذعنوا إِلَى الطَّاعَة وجبوا زكواتهم وأعشارهم وعادوا منصورين وَفِي السّنة الْمَذْكُورَة فتح على السُّلْطَان إقليم تيكرارين وتوات من أقْصَى الصَّحرَاء وجبى عَامله خراجهم وَعَاد سالما معافى وفيهَا حدثت الْحَرْب بَين السُّلْطَان مصطفى بن عبد الحميد العثماني وَبَين الموسكوب فَكتب العثماني إِلَى السُّلْطَان يطْلب مِنْهُ أَن يشد عضده بِأَن يُقيم قراصينه بِبَاب البوغاز من مرسى طنجة لِئَلَّا تدخل قراصين الموسكوب مِنْهُ وتعيث فِي الجزر الَّتِي هِيَ فِي ملكة العثماني كَمَا فعلت فِي دولة عَمه السُّلْطَان مصطفى بن أَحْمد فَأمر السُّلْطَان رَحمَه الله رُؤَسَاء قراصينه بالتهيىء وَالْمقَام هُنَالك فَفَعَلُوا وَلم يظْهر شَيْء حكى هَذَا الخبرصاحب الْبُسْتَان
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا عقد السُّلْطَان لوصيفه الْقَائِد أَحْمد بن مبارك صَاحب الطابع على جَيش كثيف وَضم إِلَيْهِ جمَاعَة من قواد الْجند والقبائل وَسَار حَتَّى نزل على حُدُود بِلَاد آيت ومالو وأحاطت العساكر السُّلْطَانِيَّة بهم من كل جِهَة وَكَانَ ذَلِك فِي فصل الشتَاء فمنعوهم من النُّزُول إِلَى الْبَسِيط للمرعى وجلب الْميرَة إِلَى أَن ضَاعَت مَوَاشِيهمْ وأذعنوا
لما كَانَت وقْعَة تطاوين ودهم النَّاس مَا دهمهم من أَمر الحمايات وَأكْثر من تعلق بهَا الْيَهُود لم يقتصروا على ذَلِك وراموا الْحُرِّيَّة تشبها بيهود مصر وَنَحْوهَا فَكَتَبُوا إِلَى يَهُودِيّ من كبار تجارهم باللوندرة اسْمه روشابيل وَكَانَ هَذَا الْيَهُودِيّ قَارون زَمَانه وَكَانَت لَهُ وجاهة كَبِيرَة فِي دولة النجليز لِأَنَّهَا كَانَت تحْتَاج إِلَيْهِ فيسلفها الْأَمْوَال الطائلة وَله فِي ذَلِك أَخْبَار مَشْهُورَة فَكتب يهود الْمغرب إِلَيْهِ أَو بَعضهم يَشكونَ إِلَيْهِ مَا هم فِيهِ من الذلة وَالصغَار وَيطْلبُونَ مِنْهُ الوساطة لَهُم عِنْد السُّلْطَان رَحمَه الله فِي الإنعام عَلَيْهِم بِالْحُرِّيَّةِ فعين هَذَا الْيَهُودِيّ صهرا لَهُ للوفادة على السُّلْطَان رَحمَه الله فِي هَذَا الْغَرَض وَفِي غَيره وأصحبه هَدَايَا نفيسة وَسَأَلَ من دولة النجليز أَن يشفعوا لَهُ عِنْد السُّلْطَان ويكتبوا لَهُ فِي قَضَاء غَرَضه فَفَعَلُوا وَقدم على السُّلْطَان بمراكش وَقدم هداياه وَسَأَلَ تَنْفِيذ مطلبه فتجافى السُّلْطَان رَحمَه الله عَن رده مخفقا وَأَعْطَاهُ ظهيرا فتمسك بِهِ الْيَهُودِيّ يتَضَمَّن صَرِيح الشَّرْع وَمَا أوجب الله لَهُم من حفظ الذِّمَّة وَعدم الظُّلم والعسف وَلم يعطهم فِيهِ حريَّة كحرية النَّصَارَى وَنَصّ الظهير الْمَذْكُور بالطابع الْكَبِير
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم نأمر من يقف على كتَابنَا هَذَا أسماه الله وأعز أمره وأطلع فِي سَمَاء الْمَعَالِي شمسه المنيرة وبدره من سَائِر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أَعمالنَا أَن يعاملوا الْيَهُود الَّذين بِسَائِر إيالتنا بِمَا أوجبه الله تَعَالَى من نصب ميزَان الْحق والتسوية بَينهم وَبَين غَيرهم فِي الْأَحْكَام حَتَّى لَا يلْحق أحدا مِنْهُم مِثْقَال ذرة من الظُّلم وَلَا يضام وَلَا ينالهم مَكْرُوه وَلَا اهتضام وَأَن لَا يتعدوا هم وَلَا غَيرهم على أحد مِنْهُم لَا فِي أنفسهم وَلَا فِي أَمْوَالهم وَأَن لَا يستعلموا أهل الْحَرْف مِنْهُم إِلَّا عَن طيب أنفسهم وعَلى شَرط توفيتهم بِمَا يستحقونه على عَمَلهم لِأَن الظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة وَنحن لَا نوافق عَلَيْهِ لَا فِي حَقهم وَلَا فِي حق غَيرهم وَلَا نرضاه لِأَن النَّاس كلهم عندنَا فِي الْحق سَوَاء وَمن ظلم أحدا مِنْهُم أَو تعدى عَلَيْهِ فَإنَّا نعاقبه بحول الله وَهَذَا الْأَمر الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وأوضحناه وبيناه كَانَ مقررا ومعروفا محررا لَكِن زِدْنَا هَذَا المسطور تقريرا وتأكيدا
الصفحة 113