كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

سعيد نازعين إِلَيْهِ ومفارقين لِابْنِهِ الثائر عَلَيْهِ واستمروا فِي جملَته إِلَى أَن مرض الْأَمِير أَبُو عَليّ وزحف أَبوهُ إِلَيْهِ وحاصره بفاس حَسْبَمَا مر فَحِينَئِذٍ عقد السُّلْطَان أَبُو سعيد لأبي زَكَرِيَّاء على سبتة ثَانِيًا وَبَعثه إِلَيْهَا ليقيم دَعوته فِي تِلْكَ الْجِهَات وَترك ابْنه مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء تَحت يَده رهنا على الطَّاعَة فاستقل أَبُو زَكَرِيَّاء بإمارتها وَأقَام دَعْوَة السُّلْطَان أبي سعيد بهَا واتصل ذَلِك مِنْهُ نَحْو سنتَيْن ثمَّ هلك عَمه أَبُو حَاتِم بسبتة سنة سِتّ عشرَة وَسَبْعمائة وانتقض أَبُو زَكَرِيَّاء بن أبي طَالب على السُّلْطَان أبي سعيد وَرجع إِلَى حَال سلفه من الاستبداد وَإِقَامَة الشورى بِالْبَلَدِ واستقدم من الأندلس عبد الْحق بن عُثْمَان الَّذِي كَانَ خرج على السُّلْطَان أبي الرّبيع مَعَ الْوَزير عبد الرَّحْمَن الوطاسي فَقدم عَلَيْهِ وَعقد لَهُ على الْحَرْب ليفرق بِهِ كلمة بني مرين بالمغرب ويوهن بأسهم فتخف عَلَيْهِ وطأتهم
واتصل ذَلِك كُله بالسلطان أبي سعيد فَقَامَ وَقعد وجهز إِلَى سبتة العساكر من بني مرين وَعقد على حربها للوزير إِبْرَاهِيم بن عِيسَى اليريناني فزحف إِلَيْهَا وحاصرها فَاعْتَذر إِلَيْهِ أَبُو زَكَرِيَّاء بِحَبْس ابْنه عَنهُ ومفارقته لَهُ وَأَنه إِذا رَجَعَ إِلَيْهِ ابْنه بذل الطَّاعَة وراجع الدعْوَة فَأعْلم الْوَزير السُّلْطَان بذلك فَبعث إِلَيْهِ بِالْوَلَدِ ليسلمه إِلَى أَبِيه بعد أَن يَقْتَضِي مِنْهُ مُوجبَات الطَّاعَة وأسبابها وَجَاء الْخَبَر إِلَى أبي زَكَرِيَّاء بِأَن ابْنه قد قدم وَأَنه كَائِن بفسطاط الْوَزير بساحل الْبَحْر بِحَيْثُ تتأتى الفرصة فِي أَخذه فَبعث أَبُو زَكَرِيَّاء إِلَى عبد الْحق بن عُثْمَان قَائِد الْحَرْب وأعلمه بمَكَان ابْنه فواطأه عبد الْحق على انْتِزَاعه مِنْهُم ثمَّ هجم لَيْلًا فِي جمَاعَة من حَاشِيَته على فسطاط الْوَزير فَاحْتمل الْوَلَد وَأصْبح بِهِ عِنْد أَبِيه وَسمع أهل عَسْكَر الْوَزير بالهيعة فَرَكبُوا وتبعوا الْأَثر فَلم يقفوا على خبر وتفقد الْوَزير الْوَلَد الَّذِي كَانَ عِنْده فَلم يجده واتهم الْجَيْش الْوَزير بِأَنَّهُ مالأ شيعَة أَبِيه على أَخذه وَإِلَّا فَلَا يقدم أحد هَذَا الْإِقْدَام بِدُونِ مداخلة من بعض الْجَيْش فتقبضوا على الْوَزير وَحَمَلُوهُ الى السُّلْطَان إبلاء فِي الطَّاعَة وابلاغا فِي الْعذر فَشكر لَهُم ذَلِك واطلق الْوَزير لعلمه ببراءته ونصحه
ثمَّ رغب أَبُو زَكَرِيَّاء بعْدهَا فِي رضَا السُّلْطَان وطاعته وولايته فَنَهَضَ
لدفع مَا وظف عَلَيْهِم فدفعوا الْمَاشِيَة والكراع وخلى سبيلهم وفيهَا خرج السُّلْطَان من مكناسة لتفقد أَحْوَال الثغور البحرية وَكَانَ الْمُتَوَلِي على جمعهَا الْقَائِد الشهير أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن عَليّ أشعاش التطواني فَعَزله السُّلْطَان فِي هَذِه الْمرة وَولى عَلَيْهَا الْقَائِد مُحَمَّد السلاوي البُخَارِيّ ثمَّ ولاه على قبائل الغرب وَالْجِبَال كلهَا وتتبع السُّلْطَان رَحمَه الله الثغور كلهَا وَأحسن إِلَى أَهلهَا
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا خرج السُّلْطَان إِلَى تادلا يُرِيد عرب ورديغة وقبائل البربر الَّذين هُنَالك فأغارت عَسَاكِر السُّلْطَان عَلَيْهِم وَوَقعت بَينهم حَرْب فظيعة هلك فِيهَا عدد من الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ انتصرت العساكر السُّلْطَانِيَّة عَلَيْهِم فهزموهم ونهبوا أَمْوَالهم وألجؤوهم إِلَى الطَّاعَة فجاؤوا تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم ثمَّ أنفذ جَيْشًا كثيفا لآيت يسري بعد أَن قبض مِنْهُم على عدد مُعْتَبر فَشُنُّوا الْغَارة عَلَيْهِم وقاتلوهم فأذعنوا لإعطاء المَال وَلما بذلوه سرح لَهُم إخْوَانهمْ الْمَقْبُوض عَلَيْهِم وَعَاد السُّلْطَان مظفرا منصورا
ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان بِلَاد الرِّيف فَنزل عين زورة وسرح الْكَتَائِب فِي قبائل الرِّيف فحاربوها وهزموها وَقتلُوا مقاتلتها وسلبوا ذراريها وحرقوا مداشرها وألجؤوهم إِلَى الطَّاعَة فقدموا على السُّلْطَان تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم على أَن يدفعوا مَا ترَتّب عَلَيْهِم ثمَّ عين السُّلْطَان الْأُمَنَاء الَّذين استوفوه مِنْهُم على التَّمام وَعَاد مظفرا منصورا وَفِي هَذِه السنين كلهَا كَانَت الرّعية فِي غَايَة الطُّمَأْنِينَة والعافية والأمن وَالْخصب والرخاء وَكَمَال السرُور والهناء حَتَّى كَانَت هَذِه الْمدَّة غرَّة فِي جبهة ذَلِك الْعَصْر ودمية فِي محراب ذَلِك الْقصر ثمَّ انعكست الْأَحْوَال وتراكمت الْأَهْوَال وعظمت الأوجال واتسع فِي الْفِتْنَة المجال وَتمّ على هَذَا السُّلْطَان الْجَلِيل الْعَالم النَّبِيل فِي آخر عمره مَا لم يتم على أحد من مُلُوك بني أَبِيه وَللَّه الْأَمر من قبل وَمن بعد
ووعيدا فِي حق من يُرِيد ظلمهم وَتَشْديد ليزِيد الْيَهُود أمنا إِلَى أَمنهم وَمن يُرِيد التَّعَدِّي عَلَيْهِم خوفًا إِلَى خوفهم صدر بِهِ أمرنَا المعتز بِاللَّه فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من شعْبَان الْمُبَارك عَام ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما مكنهم السُّلْطَان من هَذَا الظهير أخذُوا مِنْهُ نسخا وفرقوها فِي جَمِيع يهود الْمغرب وَظهر مِنْهُم تطاول وطيش وَأَرَادُوا أَن يختصوا فِي الْأَحْكَام فِيمَا بَينهم لَا سِيمَا يهود المراسي فَإِنَّهُم تحالفوا وتعاهدوا على ذَلِك ثمَّ أبطل الله كيدهم وَخيَّب سَعْيهمْ على أَن السُّلْطَان رَحمَه الله لما أحس بطيش الْيَهُود عقب ذَلِك الظهير بِكِتَاب آخر بَين فِيهِ المُرَاد وَأَن ذَلِك الْإِيصَاء إِنَّمَا هُوَ فِي حق أهل الْمُرُوءَة وَالْمَسَاكِين مِنْهُم المشتغلين بِمَا يعنيهم وَأما صعاليكهم المعروفون بِالْفُجُورِ والتطاول على النَّاس والخوض فِيمَا لَا يَعْنِي فيعاملون بِمَا يستحقونه من الْأَدَب
وَاعْلَم أَن هَذِه الْحُرِّيَّة الَّتِي أحدثها الفرنج فِي هَذِه السنين هِيَ من وضع الزَّنَادِقَة قطعا لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِم إِسْقَاط حُقُوق الله وَحُقُوق الْوَالِدين وَحُقُوق الإنسانية رَأْسا أما إِسْقَاطهَا لحقوق الله فَإِن الله تَعَالَى أوجب على تَارِك الصَّلَاة وَالصَّوْم وعَلى شَارِب الْخمر وعَلى الزَّانِي طَائِعا حدودا مَعْلُومَة وَالْحريَّة تَقْتَضِي إِسْقَاط ذَلِك كَمَا لَا يخفى وَأما إِسْقَاطهَا لحقوق الْوَالِدين فلأنهم خذلهم الله يَقُولُونَ إِن الْوَلَد الْحَدث إِذا وصل إِلَى حد الْبلُوغ وَالْبِنْت الْبكر إِذا بلغت سنّ الْعشْرين مثلا يفْعَلَانِ بأنفسهما مَا شاءا وَلَا كَلَام للْوَالِدين فضلا عَن الْأَقَارِب فضلا عَن الْحَاكِم وَنحن نعلم أَن الْأَب يسخطه مَا يرى من وَلَده أَو بنته من الْأُمُور الَّتِي تهتك الْمُرُوءَة وتزري بِالْعرضِ سِيمَا إِذا كَانَ من ذَوي البيوتات فارتكاب ذَلِك على عينه مَعَ مَنعه من الْكَلَام فِيهِ مُوجب للعقوق ومسقط لحقه من البرور وَأما إِسْقَاطهَا لحقوق الإنسانية فَإِن الله تَعَالَى لما خلق الْإِنْسَان كرمه وشرفه بِالْعقلِ الَّذِي يعقله عَن الْوُقُوع فِي الرذائل ويبعثه على الاتصاف بالفضائل وَبِذَلِك تميز عَمَّا عداهُ من الْحَيَوَان وَضَابِط الْحُرِّيَّة عِنْدهم لَا يُوجب مُرَاعَاة هَذِه الْأُمُور بل يُبِيح للْإنْسَان أَن يتعاطى مَا ينفر عَنهُ الطَّبْع وتأباه الغريزة الإنسانية من التظاهر بالفحش والزنى وَغير ذَلِك إِن شَاءَ لِأَنَّهُ مَالك أَمر نَفسه فَلَا يلْزم أَن يتَقَيَّد بِقَيْد وَلَا فرق بَينه وَبَين الْبَهِيمَة

الصفحة 114