كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

اسْتِيلَاء الْأَمِير أبي بكر على مكناسة وبيعة أَهلهَا لِابْنِ أبي حَفْص بواسطته

ثمَّ سَار الْأَمِير أَبُو بكر بمحلته فَنزل جبل زرهون ودعا أهل مكناسة إِلَى بيعَة الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء بن أبي حَفْص صَاحب إفريقية لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ على دَعوته وَفِي ولَايَته وحاصرها وضيق عَلَيْهَا بِمَنْع الْمرَافِق وترديد الغارات إِلَى أَن أذعنوا لطاعته فافتتحها صلحا بمداخلة أَخِيه يَعْقُوب بن عبد الْحق لزعيمها أبي الْحسن بن أبي الْعَافِيَة وبعثوا ببيعتهم إِلَى الْأَمِير أبي زَكَرِيَّاء الحفصي وَكَانَت الْبيعَة من إنْشَاء أبي الْمطرف بن عميرَة المَخْزُومِي وَكَانَ من أَعْلَام ذَلِك الْعَصْر ومشاهيره ولي الْقَضَاء لبني عبد الْمُؤمن بِمَدِينَة سلا ثمَّ استقضوه بعْدهَا بمكناسة فَشهد هَذِه الْقَضِيَّة وَكتب الْبيعَة
وَلما فتح الْأَمِير أَبُو بكر مكناسة أقطع أَخَاهُ يَعْقُوب ثلث جبايتها جَزَاء لَهُ على وساطته وَكَانَ فتح مكناسة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة ثمَّ آنس الْأَمِير أَبُو بكر من نَفسه الاستبداد وَمن قبيله الِاسْتِيلَاء فَاتخذ الْآلَة لذَلِك وسما بِنَفسِهِ إِلَى مرتبَة الْملك وَأعد لَهُ عدته وانْتهى الْخَبَر إِلَى السعيد صَاحب مراكش بتغلب الْأَمِير أبي بكر على مكناسة وصرفها لِابْنِ أبي حَفْص فَوَجَمَ لَهَا وفاوض الْمَلأ من أهل دولته فِي أمره وأراهم كَيفَ اقتطع الْأَمر عَنْهُم شَيْئا فَشَيْئًا حَتَّى لم يبْق بيدهم إِلَّا قرارة مراكش وَمَا حولهَا بعد امتداد ظلّ ملكهم على المغربين وإفريقية والأندلس
ثمَّ نَهَضَ السعيد من مراكش سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة يُرِيد مكناسة وَبني مرين أَولا ثمَّ تلمسان ويغمراسن بن زيان ثَانِيًا ثمَّ إفريقية وَابْن أبي حَفْص آخرا
وَلما وصل إِلَى وَادي بهت عرض جيوشه وميزها واتصل الْخَبَر بالأمير أبي بكر وَهُوَ بمكناسة فَخرج وَحده لَيْلًا يتجسس الْأَخْبَار ويستطلع أَحْوَال السعيد وجموعه فَتقدم حَتَّى أشرف على محلّة السعيد من كثب وَلَا علم
بهَا فَلَمَّا مثلُوا بَين يَدي السُّلْطَان فِي هَذِه الْمرة أكْرمهم وَفرق المَال والكسي فيهم وَأمر الباشا عبد الصَّادِق أَن يبْعَث أَخَاهُ عبد الْهَادِي للوقوف على إنْشَاء الغلائط بتطاوين
ثمَّ سَار السُّلْطَان رَحمَه الله إِلَى العرائش فألفاها خَالِيَة لَيْسَ بهَا إِلَّا نَحْو الْمِائَتَيْنِ من أهل الرِّيف تَحت كنف أهل الغرب فولى عَلَيْهَا عبد السَّلَام بن عَليّ وعدي ثمَّ أنزل بهَا مائَة من عبيد مكناسة
ثمَّ سَار إِلَى سلا فَعبر الْوَادي وَنزل برباط الْفَتْح وَأقَام بِهِ أَيَّامًا وَأمر قائده أَبَا الْحسن عليا مارسيل أَن يَبْنِي صقالة أَي برجا كَبِيرا على الْبَحْر وَأمر قَائِد سلا عبد الْحق فنيش أَن يَبْنِي مثلهَا بسلا على الْبَحْر مقابلتها ثمَّ أَمر بإنشاء سفينتين إِحْدَاهمَا لأهل سلا وَالْأُخْرَى لأهل رِبَاط الْفَتْح وَكَانَت عِنْدهم سفينة وَاحِدَة مُشْتَركَة بَينهم أنشؤوها أَيَّام الفترة وفيهَا كَانُوا قد خَرجُوا إِلَى حصن آكادير وَمِنْه بعثوا وفدهم إِلَى سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَهُوَ يَوْمئِذٍ خَليفَة بمراكش فَأكْرم الرُّسُل وَبعث مَعَهم مَالا كثيرا إِلَى الْمُجَاهدين بالعدوتين وَفِي مُدَّة مقَامه برباط الْفَتْح هَذِه الْمرة صرف جَيش العبيد والودايا إِلَى بِلَادهمْ وَسَار هُوَ إِلَى مراكش وَلما احتل بهَا كتب إِلَى تجار النَّصَارَى بآسفي يَأْمُرهُم أَن يشتروا لَهُ إِقَامَة المراكب القرصانية من صواري ونطاقات وقمن ومخاطيف وحبال وقلوع وبتاتي وَغير ذَلِك فتنافسوا فِي شِرَاء ذَلِك وازدلفوا إِلَى السُّلْطَان بجلبه وانتخابه ثمَّ استقدم جراطين الصَّحرَاء الَّذين بالرتب وتافيلالت وهم الْجَبَابِرَة والمعاركة وَأَوْلَاد أبي أَحْمد لما بلغه عَنْهُم من أَنهم يعينون عَمه الْمولى الْحسن على محاربة الْأَشْرَاف الَّذين هُنَالك فنقلهم إِلَى مكناسة وَأَعْطَاهُمْ الْكسْوَة وَالسِّلَاح وكتبهم فِي ديوَان الْجَيْش
وَفِي هَذِه السّنة وصل الْخَبَر بِمَوْت الْمولى المستضيء بن إِسْمَاعِيل بتافيلالت كَمَا مر
وَفِي هَذِه السّنة انْعَقَدت الشُّرُوط بَين السُّلْطَان رَحمَه الله وَبني جنس الصاردو وَهِي ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ شرطا كلهَا ترجع إِلَى تَمام الصُّلْح ودوام الْأَمْن والمجاملة فِي التِّجَارَات وَسَائِر أَنْوَاع المخالطات وَالثَّالِث عشر مِنْهَا يتَضَمَّن لُزُوم مراكب الْمُسلمين أَن تعْمل الكرنتينة إِن تعين مُوجبهَا عِنْد دُخُول مرسى من مراسي الصاردو وَكَذَلِكَ هم أَيْضا
ولَايَة الشريف سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب على تامسنا ودكالة وأعمالها

كَانَ السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله قد ولى ابْن عَمه الشريف سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب بن مُحَمَّد بن عبد الله على فاس فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ ولاه على قبائل تامسنا ودكالة بأسرها وفوض إِلَيْهِ النّظر فِي أمرهَا وَكَانَ سَيِّدي مُحَمَّد هَذَا ذَا شدَّة وشكيمة على العصاة دوسري الْبَطْش حجاجي السَّيْف وَكَانَ قد اتخذ كلابا ضخاما تسميها الْعَامَّة القناجر يُوهم النَّاس أَنه إِذا غضب على أحد أَلْقَاهُ إِلَيْهَا فتفترسه وَكَانَ رُبمَا جِيءَ إِلَيْهِ بالجاني فَيقوم إِلَيْهِ ويباشر ذبحه بِيَدِهِ حَتَّى لقد حز أُصْبُعه فِي ذبحه لبَعض الجناة فَقدم سَيِّدي مُحَمَّد هَذَا تامسنا وأوقع بأولاد حريز وقْعَة شنعاء فَقبض على جمَاعَة كَبِيرَة مِنْهُم وَضرب مِنْهُم نَحْو مِائَتي رَقَبَة وَهدم قَصَبَة كريران الحريزي الْمُسَمَّاة بمرجانة فَتَسَامَعَتْ الْقَبَائِل بسطوته فذعروا واقشعرت جُلُودهمْ لهيبته ثمَّ زحف إِلَى دكالة وَمَعَهُ بعض مساجين أهل تامسنا فَلَمَّا وصل إِلَى شاطىء وَادي آزمور أحضر أُولَئِكَ المساجين فَقطع الْبَعْض وَقتل الْبَعْض ثمَّ عبر الْوَادي وَنزل بآزمور فازداد النَّاس رعْبًا مِنْهُ وخشعت لَهُ قبائل دكالة بأسرها ثمَّ تقدم إِلَى الجديدة فاحتل بهَا وَكَانَت يَوْمئِذٍ خربة لَا زَالَت على الْهَيْئَة الَّتِي فتحت عَلَيْهَا أَيَّام السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وَكَانَت تسمى قبل الْفَتْح بالبريجة فَلَمَّا فتحت وتهدم صورها بالمينى صَار النَّاس يسمونها بالمهدومة فَأمر سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب بِبِنَاء سورها وترميم مَا تلثم مِنْهَا وسماها

الصفحة 12