كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

على خَمْسَة آلَاف من آنجاد بني مرين وأنفذهم مَعَ ابْن الْأَحْمَر لمنازلة جبل الْفَتْح فاحتل أَبُو مَالك بالجزيرة الخضراء وَتَتَابَعَتْ إِلَيْهِ الأساطيل بالمدد وَأرْسل ابْن الْأَحْمَر فِي الأندلس حاشرين فتسايل النَّاس إِلَيْهِ من كل جِهَة وزحفوا جَمِيعًا إِلَى الْجَبَل وَأَحَاطُوا بِهِ وأبلوا فِي منازلته الْبلَاء الْحسن إِلَى أَن فتحوه سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة واقتحمه الْمُسلمُونَ عنْوَة ونفلهم الله من كَانَ بِهِ من النَّصَارَى بِمَا مَعَهم وَشرع الْمُسلمُونَ فِي شحنه بالأقوات ينقلونها من الجزيرة الخضراء على خيولهم خوفًا من كرة الْعَدو وباشر نقلهَا الأميران أَبُو مَالك وَابْن الْأَحْمَر بأنفسهما ونقلها النَّاس عَامَّة وتحيز الْأَمِير أَبُو مَالك إِلَى الجزيرة الخضراء وَترك بِالْجَبَلِ يحيى بن طَلْحَة بن محلي من وزراء أَبِيه وَوصل الطاغية بعد ثَلَاث من فَتحه فَأَنَاخَ عَلَيْهِ وحاصره وبرز أَبُو مَالك بعساكره من الجزيرة فَنزل بإزائه وزحف ابْن الْأَحْمَر فَنزل بإزائه أَيْضا ثمَّ خَافَ ابْن الْأَحْمَر عَادِية الْعَدو لقرب الْعَهْد بارتجاع الْجَبَل وخفة من بِهِ من الحامية وَالسِّلَاح فبادر إِلَى لِقَاء الطاغية وَسبق النَّاس إِلَى فسطاطة عجلا بَائِعا نَفسه من الله فِي رضَا الْمُسلمين وسد خلتهم فَتَلقاهُ الطاغية رَاجِلا حاسرا إعظاما لَهُ وأجابه إِلَى مَا سَأَلَ من الإفراج عَن هَذَا المعقل وأتحفه بذخائر مِمَّا لَدَيْهِ وارتحل من فوره وَشرع الْأَمِير أَبُو مَالك فِي تحصين ذَلِك الثغر وسد فروجه
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي النفخ ارتجع السطلان أَبُو الْحسن جبل طَارق بعد أَن أنْفق عَلَيْهِ الْأَمْوَال وَصرف إِلَيْهِ الْجنُود والحشود ونازلته جيوشه مَعَ وَلَده وخواصه وضيقوا بِهِ إِلَى أَن استرجعوه ليد الْمُسلمين واهتم ببنائه وتحصينه وَأنْفق عَلَيْهِ أحمال المَال فِي بنائِهِ وحصنه وسوره وَبنى أبراجه وجامعه ودوره ومحاربيه وَلما كَاد يتم ذَلِك نازله الْعَدو برا وبحرا فَصَبر الْمُسلمُونَ وَخيَّب الله سعي الْكَافرين فَأَرَادَ السُّلْطَان الْمَذْكُور أَن يحصن سفح الْجَبَل بسور مُحِيط بِهِ من جَمِيع جهاته حَتَّى لَا يطْمع عَدو فِي منازلته وَلَا يجد سَبِيلا للتضييق عَلَيْهِ بمحاصرته وَرَأى النَّاس ذَلِك من الْمحَال فأنفق الْأَمْوَال وأنصف الْعمَّال فأحاط بمجموعه إحاطة الهالة بالهلال وَكَانَ بَقَاء هَذَا الْجَبَل بيد الْعَدو نيفا وَعشْرين سنة وحاصره السُّلْطَان أَبُو الْحسن سِتَّة
لَا وبمثل هَذَا نقُول نَحن أَيْضا ثمَّ قَالَ لَهُ القَاضِي وبلغنا عَنْكُم أَنكُمْ تَقولُونَ بِعَدَمِ حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحياة إخوانه من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي قُبُورهم فَلَمَّا سمع ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارتعد وَرفع صَوته بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالَ معَاذ الله إِنَّمَا نقُول إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيّ فِي قَبره وَكَذَا غَيره من الآنبياء حَيَاة فَوق حَيَاة الشُّهَدَاء ثمَّ قَالَ لَهُ القَاضِي وبلغنا أَنكُمْ تمْنَعُونَ من زيارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزيارة سَائِر الْأَمْوَات مَعَ ثُبُوتهَا فِي الصِّحَاح الَّتِي لَا يُمكن إنكارها فَقَالَ معَاذ الله أَن ننكر مَا ثَبت فِي شرعنا وَهل منعناكم أَنْتُم لما عرفنَا أَنكُمْ تعرفُون كيفيتها وآدابها وَإِنَّمَا نمْنَع مِنْهَا الْعَامَّة الَّذين يشركُونَ الْعُبُودِيَّة بالألوهية وَيطْلبُونَ من الْأَمْوَات أَن تقضى لَهُم أغراضهم الَّتِي لَا تقضيها إِلَّا الربوبية وَإِنَّمَا سَبِيل الزِّيَارَة الِاعْتِبَار بِحَال الْمَوْتَى وتذكر مصير الزائر إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ المزور ثمَّ يَدْعُو لَهُ بالمغفرة ويستشفع بِهِ إِلَى الله تَعَالَى وَيسْأل الله تَعَالَى الْمُنْفَرد بالإعطاء وَالْمَنْع بجاه ذَلِك الْمَيِّت إِن كَانَ مِمَّن يَلِيق أَن يتشفع بِهِ هَذَا قَول إمامنا أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ وَلما كَانَ الْعَوام فِي غَايَة الْبعد عَن إِدْرَاك هَذَا الْمَعْنى منعناهم سدا للذريعة فَأَي مُخَالفَة للسّنة فِي هَذَا الْقدر أه
ثمَّ قَالَ صَاحب الْجَيْش هَذَا مَا حدث بِهِ أُولَئِكَ المذكورون سمعنَا ذَلِك من بَعضهم جمَاعَة ثمَّ سَأَلنَا الْبَاقِي أفرادا فاتفق خبرهم على ذَلِك اه
قلت مَسْأَلَة زِيَارَة قُبُور الْأَنْبِيَاء والأولياء مَشْهُورَة فِي كتب الْأَئِمَّة وَهِي من الْقرب المرغوب فِيهَا عِنْد الْجُمْهُور ومنعها قوم من الحنابل وشدد تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية مِنْهُم فِيهَا محتجا بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد مَسْجِدي هَذَا وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى وَهُوَ عِنْد الْجُمْهُور مؤول بِأَن الْمَعْنى لَا تشد الرّحال لصَلَاة فِي مَسْجِد إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد اه وَقد بسط القَوْل فِي هَذَا صَاحب الْمَوَاهِب اللدنية وَالْقَوْل الْفَصْل أَن التَّبَرُّك بآثار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام والأولياء رَضِي الله عَنْهُم وزيارة مشاهدهم من الْأَمر الْمَعْرُوف عِنْد أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمجمع عَلَيْهِ
الْمَعْرُوف بالفرنساوي وَهَذَا الرجل من العارفين بِاللِّسَانِ الفرنجي البصيرين بعوائد ذَلِك الجيل وَلذَا لقب بالفرنساوي وَبعث مَعَه السُّلْطَان رَحمَه الله كل شَيْء غَرِيب مِمَّا اخْتصَّ بِهِ قطر الْمغرب من سروج مذهبَة ومناطق مزخرفة وقطائف منمقة وَغير ذَلِك من الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى حَتَّى الزليج الفاسي والمعلمين الَّذين يباشرون ترصيعه فِي محاله وَحضر هَذَا السُّوق الْمُلُوك فَمن دونهم من كل إقليم حَتَّى السُّلْطَان عبد الْعَزِيز العثماني رَحمَه الله فَكَانَ الْحَال كَمَا قَالَ أَبُو الطّيب المتنبي
(تجمع فِيهِ كل لسن وَأمة ... فَمَا تفهم الحداث إِلَّا التراجم)
وأقامت عمارتها ثَلَاثَة أشهر ثمَّ انفض النَّاس إِلَى بِلَادهمْ وَلما بلغ نابليون الثَّالِث إِلَى هَذِه الْغَايَة فَجِئْته وقْعَة البروس الَّتِي كسرت من شوكته وفلت من غربه وَقبض عَلَيْهِ بِالْيَدِ وحوصرت دَار ملكه باريس مُدَّة طَوِيلَة فَبلغ فِيهَا لحم الْحمار أَرْبَعَة ريالات افرنك لكل رَطْل على مَا قيل وَلم تغب عَنْهُم محنة وَوَقع الصُّلْح على شُرُوط مِنْهَا ألف مليون من الريال تدفعها دولة افرانسا لدول البروس
وَفِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ عَشِيَّة يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع عشر من شعْبَان مِنْهَا توفّي الْوَزير أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب بن الْيَمَانِيّ الْمَدْعُو بِأبي عشْرين وَكَانَ سَبَب وَفَاته أَنه كَانَ بِهِ دَاء الْحصْر فَدخل الميضأة الَّتِي بمشور أبي الخصيصات من دَار السُّلْطَان بِحَضْرَة مراكش فَيُقَال إِن مثانته تمزقت فَمَاتَ رَحمَه الله وَحمل إِلَى دَاره وَصلى عَلَيْهِ بعد الْجُمُعَة بِمَسْجِد المواسين وَحضر جنَازَته الجم الْغَفِير وَدفن بضريح الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الغزواني من حومة الْقُصُور وَكَانَ رَحمَه الله ذَا جد فِي الْأُمُور ونصح للسُّلْطَان وللمسلمين
وَفِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ لَيْلَة الْخَمِيس الرَّابِع عشر من ربيع الثَّانِي مِنْهَا خسف الْقَمَر خسوفا كليا بعد الْغُرُوب إِلَى نصف اللَّيْل وَفِي فجر يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن من جُمَادَى الأولى من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي الْوَلِيّ الصَّالح الناسك السّني أَبُو عبد الله مُحَمَّد الطّيب ابْن الشَّيْخ الْأَشْهر مولَايَ

الصفحة 122