كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
وتواقعوا على مساربهم فوطئوا بالحوافر وتراكمت أشلاؤهم مَا بَين الْبَابَيْنِ حَتَّى ضَاقَ المسلك مَا بَين السّقف ورحبة الْبَاب وَانْطَلَقت الْأَيْدِي على الْمنَازل نهبا واكتساحا
وَأما أَبُو تاشفين فَإِنَّهُ قَاتل حَتَّى قتل ابناه عُثْمَان ومسعود أَمَامه وخلصت إِلَيْهِ جراحات فأثخنته وتقبض عَلَيْهِ بعض الفرسان فساقه إِلَى السُّلْطَان فَلَقِيَهُ ابْنه الْأَمِير أَبُو عبد الرَّحْمَن فَأمر بِهِ فَقتل فِي الْحِين واحتز رَأسه وَسخط السُّلْطَان ذَلِك من فعله لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا على توبيخه وتقريعه وَقَالَ ابْن الْخَطِيب وقف أَبُو تاشفين وَبَنوهُ بِإِزَاءِ الْقصر مدافعين عَن أنفسهم وَقَامُوا مقَام الصَّبْر والإستجماع وَصَدقُوا عَن أنفسهم الدفاع إِلَى أَن كوثروا وأعجلتهم ميتَة الْعِزّ عَن شدّ الوثاق وَإِمْكَان الشمات فَكَانَ فِي شَأْنهمْ عِبْرَة رَحِمهم الله
وخلص السُّلْطَان أَبُو الْحسن إِلَى الْمَسْجِد الْجَامِع بحاشيته واستدعى شُيُوخ الْفتيا بتلمسان وهما الإمامان الشهيران أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن وَأَبُو مُوسَى عِيسَى ابْنا الإِمَام فخلصوا إِلَيْهِ بعد الْجهد ووعظوه وذكروه بِمَا نَالَ النَّاس من النهب والعيث فَركب لذَلِك بِنَفسِهِ وَسكن النَّاس وَقبض أَيدي الْجند عَن الْفساد وَعَاد إِلَى مُعَسْكَره بِالْبَلَدِ الْجَدِيد وَقد كمل الْفَتْح وَعز النَّصْر وَاسْتولى السُّلْطَان أَبُو الْحسن على تِلْكَ الْإِمَارَة المؤثلة بِمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من نَفِيس الحلى وثمين الذَّخِيرَة وفاخر الْمَتَاع وخطير الْعدة وبديعة الْآلَة وصامت المَال وضروب الرَّقِيق وصنوف الأثاث والماعون وَرفع الْقَتْل عَن بني عبد الواد أعدائه وشفا نَفسه بقتل سلطانهم وَعَفا عَنْهُم وأثبتهم فِي الدِّيوَان وَفرض لَهُم الْعَطاء واستتبعهم على راياتهم ومراكزهم وَجمع كلمة بني واسين من بني مرين وَبني عبد الواد وَبني توجين وَسَائِر زناتة وصاروا عصبا تَحت لوائه وسد بِكُل طَائِفَة مِنْهُم ثغرا من أَعماله فَأنْزل مِنْهُم بقاصية السوس وبلاد غمارة وَأَجَازَ مِنْهُم إِلَى ثغور عمله بالأندلس حامية ومرابطين واندرجوا فِي جملَته واتسع نطاق مَمْلَكَته وَأصْبح أَبُو الْحسن ملك زناتة بعد أَن كَانَ ملك بني مرين وسلطان العدوتين بعد أَن كَانَ سُلْطَان الْمغرب فَقَط {إِن الأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين}
(وتأنس الحرمان مِنْك بطلعة ... أغنتهما عَن وابل هطال)
(كرم لكم أدريه يَوْم أفاضه ... عني سُلَيْمَان باي سِجَال)
(وهب الألوف وَكَانَ أكْرم منزل ... يسلى الْغَرِيب ببره المتوال)
(يَوْم التشرف لي بلثم يَمِينه ... وتمتعي من وَجهه بِجَمَال)
(وتلذذي بخطابه المعسول إِذْ ... حفت بِهِ للدرس أَي رجال)
(لم أنسه يَوْمًا حسبت نعيمه ... بلذائذ الجنات ضرب مِثَال)
(عجبا لَهُ يحيي الْقُلُوب بِعِلْمِهِ ... وَيُمِيت جند الْفقر مِنْهُ بِمَال)
(وَإِذا تقلد للوغي فحسامه ... تعنو الرّقاب لَهُ بِدُونِ قتال)
(تتلوه بِالْفَتْح الْمُبين عَسَاكِر ... قد أرهفت بالنصر حد نصال)
(تخشى الْمُلُوك مقَامه ولذكره ... رعْبًا تطير فرائص الْأَبْطَال)
(وينال آمله بخفض جنَاحه ... ماليس يخْطر قطّ مِنْهُ ببال)
(حَتَّى سعى لصفي منهله الَّذِي ... يسْعَى لمروته ذَوُو الأثقال)
(وَأَتَتْ لمغربه الشريف مَشَارِق ... وَالشَّمْس تغرب لاقْتِضَاء كَمَال)
(لما تكدر صفوها بضلاله ... جَاءَتْهُ كَيْمَا ترتوي بزلال)
(وَمَتى تخلف عَاجز فبقلبه ... يسْعَى لفعل شَعَائِر الإجلال)
(أُمْنِية وَقعت أَشرت لذكرها ... فِي مدحه قدما بِصدق مقَال)
(تهوى الْمَشَارِق أَن تكون مغاربا ... لتنال من جدواه كل منال)
(يَا فَخر دين الله مِنْهُ بناصر ... وسعادة الدُّنْيَا بِهِ من وَال)
(لَا تفتخر فاس وَلَا مراكش ... بولائه كل الْأَنَام موَالٍ)
(أَو لَيْسَ فِي كل الْبِقَاع ثَنَاؤُهُ ... ورد البكور وسحة الآصال)
(أَو لم يشد للدّين وَالْعُلَمَاء ... والأشراف والصلحاء أَي جلال)
(أَو لم يعم بجوده أقطارها ... لَا فرق بَين جنوبها وشمال)
(أَو لم يسر ركبانها بمحاسن ... ضاءت لَهَا سرج بجنح لَيَال)
(أَو لَيْسَ أَحْيَا سنة العمرين فِي ... زمن إِلَى بدع الْهوى ميال)
(شيم يهز الراسيات سماعهَا ... ويعجن فِي أنف الزَّمَان غوال)
(أَوْصَاف والدك الإِمَام المرتضى ... للدّين وَالدُّنْيَا بِحسن خلال)
تجلبه السُّيُول إِلَيْهَا وَأَعْظَمهَا الْبركَة الْكُبْرَى الَّتِي بدار الهناء وَكَانَ يُقَال لَهَا الْبَحْر الْأَصْغَر وطولها اثْنَتَا عشرَة مائَة قدم وعرضها تِسْعمائَة قدم حَسْبَمَا أخبر من قاسها وَكَانَ تربيعها بِمَنْزِلَة سور قَصَبَة فجَاء من بني فِي وَسطهَا قَرْيَة بدورها وأزقتها وأسواقها فجَاء السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله أَيَّام خِلَافَته فَأمر بِإِخْرَاج مَا فِي تِلْكَ البرك والصهاريج كلهَا وتنقيتها من الطيون المتحجرة فَاجْتمع على ذَلِك عَالم من النَّاس فكنسوها وعادت إِلَى حَالهَا الَّذِي بنيت لأَجله وَهُوَ اختزان المَاء لوقت المصيف وَبِذَلِك كمل المُرَاد من آجدال وَصَارَ آمنا من الْعَطش والأمحال وَمن ذَلِك أَيْضا إحْيَاء عين أبي عكاز خَارج بَاب الطبول من مراكش وَكَانَت لَهَا بركَة بائدة على الْوَصْف الَّذِي ذكرنَا فَعمد إِلَيْهَا سَيِّدي مُحَمَّد رَحمَه الله وفجر لَهَا عينا ثرة وَمَاء غدقا وأجراه إِلَى الْبركَة الْمَذْكُورَة بعد أَن أَمر بتنقيتها وإصلاحها فَعَاد ذَلِك الْبَسِيط الَّذِي حولهَا مزارع نفاعة تغني الزارعين وتبهج الناظرين وَبنى رَحمَه الله حولهَا قلعة يأوي إِلَيْهَا الأكرة والحراثون بأنعامهم ومواشيهم وَاتخذ هُنَالك من إناث الْخَيل الْمعدة للنتاج عددا كثيرا وَمن ذَلِك إحْيَاء عين المنارة وبركتها الْعُظْمَى الَّتِي تقرب من الْبَحْر الْأَصْغَر بدار الهناء وَكَانَت قد عطلت مُنْذُ زمَان فقيض الله لَهَا هَذَا السُّلْطَان فَجمع الْأَيْدِي عَلَيْهَا حَتَّى أخرج مَا فِي جوفها من جبال الطين وَأصْلح مَا تشعث من حيطانها وأجرى إِلَيْهَا الْعُيُون والأنهار وَأمر بغرس مَا حولهَا من الفضاء بأنواع الْأَشْجَار وضاهى بهَا جنَّة آجدال وَمن ذَلِك أَيْضا إِجْرَاء النَّهر الْمُسَمّى بتاركي المستمد من وَادي نَفِيس فَإِنَّهُ ضاهى بِهِ النَّهر الْقَدِيم الَّذِي هُنَاكَ وَهَذَا النَّهر الْجَدِيد أَنْفَع مِنْهُ وأوسع أحيى الله بِهِ تِلْكَ البسائط الَّتِي بَين مراكش ووادي نَفِيس وَمن ذَلِك أَيْضا إِجْرَاء النَّهر الَّذِي جلبه من تاستاوت إِلَى الْبَسِيط الَّذِي بَين بِلَاد زمران والرحامنة والسراغنة وَهُوَ الْمُسَمّى بفيطوط فَصَارَ ذَلِك كُله رياضا مخضرة وبساتين
الصفحة 126