كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

مراسلة السُّلْطَان أبي الْحسن لسلطان مصر وَبَعثه الْمَصَاحِف من خطه إِلَى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة شرفها الله

كَانَ للسُّلْطَان أبي الْحسن مَذْهَب وَرَأى فِي ولَايَة مُلُوك الْمشرق والمكلف بالمعاهد الشَّرِيفَة اقْتِدَاء فِي ذَلِك بِعَمِّهِ يُوسُف بن يَعْقُوب وَغَيره من سلفه وضاعف ذَلِك لَدَيْهِ متين ديانته ورفيع همته وَلما قضى من أَمر تلمسان مَا قضى وَاسْتولى على المغربين خَاطب لحينه صَاحب مصر وَالشَّام والحجاز الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون وعرفه بِالْفَتْح وارتفاع الْعَوَائِق عَن ركب الْحَاج فِي سابلتهم وَكَانَ سفيره فِي ذَلِك فَارس بن مَيْمُون بن وردار وَعَاد بِجَوَاب الْكتاب وَتَقْرِير الْمَوَدَّة بَين الْخلف كَمَا كَانَت بَين السّلف فأجمع السُّلْطَان أَبُو الْحسن حِينَئِذٍ على كتب نُسْخَة عتيقة من الْمُصحف الْكَرِيم بِخَط يَده ليوقفها بِالْحرم الشريف حرم مَكَّة قربَة إِلَى الله تَعَالَى وابتغاء للمثوبة فانتسخها بِيَدِهِ وَجمع الوراقين لتنميقها وتذهيبها والقراء لضبطها وتهذيبها وصنع لَهَا وعَاء مؤلفا من الآبنوس والعاج والصندل فائق الصَّنْعَة وَغشيَ بصفائح الذَّهَب ورصع بالجوهر والياقوت وَاتخذ لَهُ أصونة الْجلد المحكمة الصَّنْعَة المرقوم أديمها بخطوط الذَّهَب وَمن فَوْقهَا غلائف الْحَرِير والديباج وأغشية الْكَتَّان وَأخرج من خزائنه أملا عينهَا لشراء الضّيَاع بالمشرق لتَكون وَقفا على الْقُرَّاء فِيهَا وأوفد على الْملك النَّاصِر خَواص مَجْلِسه وكبار أهل دولته مثل عريف بني حيى أَمِير بني زغبة من عرب بني هِلَال وَمثل السَّابِق الْمُقدم فِي بساطه على كل خَالِصَة عَطِيَّة بن مهلهل بن يحيى كَبِير أَخْوَاله من عرب الْخَلْط وَبعث كَاتبه أَبَا الْفضل بن مُحَمَّد بن أبي مَدين وعريف الوزعة بِبَابِهِ الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن قَاسم المزوار
واحتفل فِي الْهَدِيَّة للسُّلْطَان صَاحب مصر احتفالا تحدث النَّاس بِهِ دهرا قَالَ ابْن خلدون وقفت على برنامج الْهَدِيَّة بِخَط أبي الْفضل بن أبي مَدين الرَّسُول الْمَذْكُور ووعيته ثمَّ أنسيته وَذكر لي بعض قهارمة الدَّار أَنه كَانَ فِيهَا خَمْسمِائَة من
(ذَاك الرّبيع أَبُو الرّبيع وَمن بِهِ ... حيى الْهدى وَشَرَائِع الأفضال)
(كل الْكَمَال لَهُ وَأَنت مقره ... وَالْفرع عين الأَصْل عِنْد مَال)
(يَا ابْن المليك ابْن المليك ابْن المليك ... ابْن المليك سلالة الْأَقْيَال)
(أنسيتم ذكر العباسية الأولى ... زَالُوا وَمَا زَالُوا بِعَين جلال)
(لكم الفخار بِذَاتِهِ وسواكم ... مستمسك من فخركم بظلال)
(ولي الفخار بِأَن نسجت مديحكم ... حللا تَجِد وكل شَيْء بَال)
(أملي مَعَانِيهَا على ودادكم ... فَجرى بِهِ طبع كَمَا السلسال)
(وَلَو أنني حاولت مدح سواكم ... عقل القريحة عَنهُ أَي عقال)
(فَكَأَنَّمَا طبعي شرِيف حَيْثُمَا ... لَا يَهْتَدِي لسوى مديح الْآل)
(أَو قد درى أَن المديح تعرض ... وسواكم لَا يرتضي لسؤال)
(أبقاكم كهفا يلاذ بمجدكم ... مختاركم لإنالة الآمال))
(وأدام لِلْإِسْلَامِ والدك الَّذِي ... هُوَ رَحْمَة وسعت بِغَيْر جِدَال)
(وَعَلَيْكُم وعَلى الَّذِي يهواكم ... أزكى الرضى من حَضْرَة المتعال)
(مَا دَامَ ذكركُمْ بِكُل صحيفَة ... تبعا لِأَحْمَد سيد الْإِرْسَال)
(صلى عَلَيْهِ مُسلما رب الورى ... وعَلى مقدم حزبه والتالي)
وعزز هَذِه القصيدة بِمِثْلِهَا بحرا وقافية ورويا الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب أَبُو الْفَيْض حمدون بن الْحَاج الفاسي يَقُول فِي مطْلعهَا
(بِشِرَاك إِبْرَاهِيم بالإقبال ... إقبال عز لم يكن بالبال)
وَهِي طَوِيلَة تركناها اختصارا وَفِي هَذِه السّنة توفّي الشريف الْبركَة الْمولى عَليّ ابْن الْمولى أَحْمد الوزاني وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء آخر يَوْم ربيع الأول سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف
غَزْو السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بِلَاد الرِّيف وَالسَّبَب فِي ذَلِك

لما كَانَت سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَألف بلغ السُّلْطَان أَن قبائل الرِّيف من قلعية وَغَيرهم صَارُوا يبيعون الزَّرْع لِلنَّصَارَى ويسوقونه من بِلَادهمْ فعقد لعامله على الثغور أبي عبد الله مُحَمَّد السلاوي على جَيش كثيف وأنفذه إِلَيْهِم
ذَات أزهار مفترة وَبنى رَحمَه الله فِيهَا قَصَبَة عامرة يأوي إِلَيْهَا الوكلاء والفلاحون وَصَارَت آهلة بعد أَن كَانَت بائدة غامرة
وَمن آثاره بعد ولَايَته أَمر الْمُؤمنِينَ دَاره الْكُبْرَى بآجدال رِبَاط الْفَتْح والسور الْكَبِير الْمُحِيط ببسيطها وجلب المَاء إِلَيْهَا بعد أَن صير عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَة وأحيى جَامع السّنة قربهَا وَكَانَ بائدا يعشش فِيهِ الصدى والبوم وَأقَام فِيهِ الصَّلَوَات الْخمس وَالْخطْبَة كل جُمُعَة وَأَحْيَا الْمَسْجِد الصَّغِير هُنَالك الْمُسَمّى بِمَسْجِد أهل فاس واعتنى بِهِ وزخرف سقوفه وانتهج الطَّرِيق من الدَّار الْمَذْكُورَة إِلَى الْوَادي أَسْفَل من حسان تسهيلا على الْمَارَّة وتقريبا عَلَيْهِم وَمِنْهَا أَنه نقل طَائِفَة من الْجَيْش السُّوسِي الَّذِي بالمنشية وأوطنها حول الدَّار الْمَذْكُورَة بآجدال فاستطابوا الْمقَام هُنَاكَ وَحسنت حَالهم وانعمرت بهم تِلْكَ النَّاحِيَة وهم الْآن بِهَذَا الْحَال وَمِنْهَا بِالدَّار الْبَيْضَاء الْمَسْجِد الْجَامِع بِالسوقِ وَكَانَ الصائر عَلَيْهِ من أحباس الْمَسْجِد الْقَدِيم وَإِنَّمَا السُّلْطَان رَحمَه الله أذن فِي بنائِهِ بِإِشَارَة عاملها يَوْمئِذٍ أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري وَمِنْهَا الْحمام الْقَدِيم الَّذِي بهَا وَكَانَ الصائر عَلَيْهِ من بَيت المَال وَأصْلح رَحمَه الله أسوار الجديدة وأبراجها واعتنى بشأن الثغور وَبعث من نوابه من يتفقد أحوالها وَمِنْهَا بمراكش دَار فابريكة السكر بآجدال مِنْهَا صير عَلَيْهَا أَمْوَالًا طائلة وَجَاءَت على عمل متقن وهيئة ضخمة إِلَّا أَنَّهَا الْيَوْم معطلة لقلَّة الْمَادَّة وَمِنْهَا دَار فابريكة تزديج البارود بِالْمحل الْمَعْرُوف بالسجينة من مراكش أَيْضا وَمن ذَلِك برج الفنار الَّذِي على سَاحل الْبَحْر بأشقار قرب طنجة يسرج فِيهِ ضوء كثير يظْهر للسيارة فِي الْبَحْر لَيْلًا من مَسَافَة بعيدَة وصير عَلَيْهِ مَالا لَهُ بَال وَكَانَت المراكب تنشب بذلك السَّاحِل كثيرا إِذْ لم يكن لَهَا عَلامَة تهتدي بهَا فِي الْبَحْر وَلما اتخذ السُّلْطَان رَحمَه الله هَذَا الفنار أمنت من تِلْكَ الآفة وَله رَحمَه الله آثَار كَثِيرَة يطول ذكرهَا جعلهَا الله فِي ميزَان حَسَنَاته وَرفع بهَا فِي عليين درجاته

الصفحة 127