كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
مراسلة السُّلْطَان أبي الْحسن لصَاحب مصر أبي الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن قلاوون
قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن راسل الْملك النَّاصِر صَاحب مصر وهاداه بِمَا عظم وقعه عِنْد الْخَاصَّة والعامة واتصلت الْولَايَة بَينه وَبَين الْملك النَّاصِر إِلَى أَن هلك سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَولي الْأَمر من بعده ابْنه أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل فخاطبه السُّلْطَان أَبُو الْحسن أَيْضا وأتحفه وَعَزاهُ عَن أَبِيه وأوفد عَلَيْهِ كَاتبه وَصَاحب ديوَان الْخراج أَبَا الْفضل بن أبي عبد لله بن أبي مَدين وَفِي صحبته الْحرَّة أُخْت السُّلْطَان أبي الْحسن فَقضى من وفادته مَا حمل وأصحبه السُّلْطَان أَبُو الْحسن كتابا إِلَى الْملك الصَّالح أبي الْفِدَاء وَكَانَ وُصُوله إِلَى مصر منتصف شعْبَان سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة
وَنَصّ الْكتاب بعد الْبَسْمَلَة وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عِنْد أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله رب الْعَالمين الْمَنْصُور بِفضل الله المتَوَكل عَلَيْهِ الْمُعْتَمد فِي جَمِيع أُمُوره لَدَيْهِ سُلْطَان البرين حامي العدوتين مُؤثر المرابطة والمثاغرة موازر حزب الْإِسْلَام حق الموازرة نَاصِر الْإِسْلَام مظَاهر دين الْملك العلام ابْن أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين فَخر السلاطين حامي حوزة الدّين ملك البرين إِمَام العدوتين ممهد الْبِلَاد مبدد شَمل الأعاد مجند الْجنُود الْمَنْصُور الرَّايَات والبنود محط الرّحال مبلغ الآمال أبي سعيد ابْن أَمِير الْمُسلمين الْمُجَاهِد فِي سَبِيل رب الْعَالمين حَسَنَة الْأَيَّام حسام الْإِسْلَام أبي الْأَمْلَاك مشجي أهل العناد والإشراك مَانع الْبِلَاد رَافع علم الْجِهَاد مدوخ أقطار الْكفَّار مصرخ من ناداه للانتصار الْقَائِم لله بإعلاء دين الْحق أبي يُوسُف يَعْقُوب بن عبد الْحق أخْلص الله لوجهه جهاده وَيسر فِي قهر عداة الدّين مُرَاده إِلَى مَحل ولدنَا الَّذِي طلع فِي أفق الْعلَا بَدْرًا تما وصدع بأنواع الفخار فَجلى ظلاما وظلما وَجمع شَمل المملكة الناصرية فأعلى مِنْهَا علما وأحيى رسما حَائِط الْحَرَمَيْنِ الْقَائِم بِحِفْظ الْقبْلَتَيْنِ باسط الْأمان قَابض كف
الْكَلِمَة بفاس حَتَّى أدّى ذَلِك إِلَى الْحَرْب وَسَفك الدِّمَاء وَنهب الدكاكين وتراموا بالرصاص من أَعلَى منار مَسْجِد الرصيف وَبلغ ذَلِك السُّلْطَان وَهُوَ يَوْمئِذٍ بمكناسة يعالج دَاء البربر فزاده ذَلِك وَهنا على وَهن فَكتب إِلَى أهل فاس كتابا شحنه بالوعظ والعتب وَأمر ابْنه الْمولى عليا أَن يقرأه عَلَيْهِم فَجَمعهُمْ وقرأه عَلَيْهِم حَتَّى سَمِعُوهُ وفهموه وَنَصّ الْكتاب الْمَذْكُور بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم إِلَى أهل فاس السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإِن العثماني بإصطنبول وَأمره ممتثل بتلمسان والهند واليمن وَمَا رَأَوْهُ قطّ وَلَكِن أَمر الله يمتثلون {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن} النِّسَاء 59 وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة وَلَكِن يعْفُو ويصفح وَاعْلَمُوا أَن الْعمَّال ثَلَاثَة عَامل أكل السُّحت وأطعمه الغوغاء والسفلة وعامل لم يَأْكُل وَلم يطعم غَيره انتصف من الظَّالِم وعامل أكل وَحده وَلم يطعم غَيره فَالْأول تحبه الْعَامَّة والسفلة ويبغضه الله وَالسُّلْطَان والصالحون وَالثَّانِي يُحِبهُ الله ويكفيه مَا أهمه من أَمر السُّلْطَان وَالثَّالِث كعمال الْيَوْم يَأْكُل وَحده وَيمْنَع رفده وَلَا ينصر الْمَظْلُوم فَهَذَا يبغضه الله وَرَسُوله وَالسُّلْطَان وَالنَّاس أَجْمَعُونَ وَهَذَا معنى حَدِيث أزهد فِيمَا فِي أَيدي النَّاس يحبك النَّاس الخ
وَحَدِيث الْعمَّال ثَلَاثَة الخ فَلَو كَانَ للصفار مائدة خمر وَطَعَام يَأْخُذهُ من الْأَسْوَاق ويتغذى عِنْده ويتعشى السفلة والفساق وَيَدْعُو الْيَوْم ابْن كيران وَغدا ابْن شقرون وَبعده بنيس وَابْن جلون وَيفرق عَلَيْهِم من الذعائر لأحبوه وَمَا قَامُوا عَلَيْهِ وَلَو أردتم النَّصِيحَة لله وَلِرَسُولِهِ ولأميره لقدم علينا ثَلَاثَة مِنْكُم أَو ذكرْتُمْ ذَلِك لولدنا مولَايَ عَليّ أصلحه الله فَأخْبرنَا بذلك وَقل للصفار الْكلاب لَا تتهارش إِلَى على الطَّعَام والجيف فَإِذا رَأَتْ كَلْبا بِبَاب دَار سَيّده وَلَا شَيْء أَمَامه لم تعرج عَلَيْهِ وَإِن رَأَتْهُ يَأْكُل فَإِن هُوَ تعامى وأشركهم فِيمَا يَأْكُل أكلُوا مَعَه وسكتوا وَإِن هُوَ قطب وَجهه وكشر عَن أنيابه تراموا عَلَيْهِ وغلبوه على مَا فِي يَده وَهَذَا الصفار لم يتق الله ويزهد الزّهْد الَّذِي ينصره الله بِهِ وَلم يلاق النَّاس بِوَجْه طلق ويطرف مِمَّا يَأْكُلهُ فسلطهم
(والدهر سلم والحظوظ بواسم ... والنصر يقبل من هُنَاكَ وَمن هُنَا)
(والسعد قد ألْقى عَصا تسياره ... فِي قصره متاليا أَن يقطنا)
(حسنت بطلعته الدنا فَكَأَنَّهَا ... حلى بِهِ هَذَا الزَّمَان تزينا)
(إِن المزايا والعطايا والحجا ... أَخْلَاق سيدنَا تناء أودنا)
(لَا لَا تقس قيسا بِهِ فِي النبل أَو ... فِي الْفضل قعقاعا وأحنف فِي الأنا)
(أَو فِي الشجَاعَة عَامِرًا أَو فِي الندى ... مَعنا وَفِي الإفصاح قس الألسنا)
(فهم لَو اطلعوا على خصلاته ... لغدت ظنونهم بِذَاكَ تَيَقنا)
(فاستصغروا مَا كَانَ يصدر مِنْهُم ... وأتى جَمِيعهم إِلَيْهِ مذعنا)
(لَيْت الْمُلُوك السالفين قد أحضروا ... فَرَأَوْا مليكا مَالِكًا حسن الثنا)
(وَلَو أَنهم علمُوا ضخامة ملكه ... قَالُوا لنا ملك وَلَكِن قدونا)
(وَلَو أَنهم سمعُوا بِعظم سماحه ... تاقوا وَقَالُوا ليته فِي عصرنا)
(وَلَو أَنهم قد أبصروا إقدامه ... بهتُوا وَقَالُوا لَيْسَ ذَا فِي طوقنا)
(هَذَا الْأَمِير ابْن الْأَمِير ابْن الْأَمِير ... ابْن الْأَمِير الْمَالِكِي رسن الدنا)
(هاذ العصامي العظامي الَّذِي ... وسع الْأَمَاكِن فَضله والأزمنا)
(مَا زَالَ يسمح بالجوائز واللها ... حَتَّى لقد تخذ السماحة ديدنا)
(فخم نتيه تلذذا بحَديثه ... حَتَّى نظن الأَرْض قد مادت بِنَا)
(طبع الْفُؤَاد على مودنه فَمَا ... نَدْعُو لَهُ بالنصر إِلَّا هيمنا)
(يَا أَيهَا الْملك السميذع وَالَّذِي ... مَا كَانَ مشبهه مضى فِي غربنا)
(مَا زلت تجتاب الْبِلَاد بسيرة ... عمرية تذر الْمعاصِي مذعنا)
(وَتبين للنَّاس الرشاد وسبله ... وتريهم نهج السوَاء البينا)
(وتدمر العاتي بأبيض صارم ... وَتقوم المعوج بالسمر القنا)
(لَوْلَا الْبُغَاة من الْأَنَام وجورهم ... مَا فَارَقت بيض السيوف الأجفنا)
(لَكِن بِحِلْمِك قد حقنت دِمَاءَهُمْ ... مَا أوشكت من بغيهم أَن تحقنا)
(وأنمت فِي ظلّ الْأمان جفونهم ... لولاك لم يَك لامرىء أَن يأمنا)
(وَلَقَد تَركتهم وكل قَبيلَة ... تثني عَلَيْك ثَنَا الْقُلُوب على المنا)
(حَتَّى أتيت الحضرة الفاسية الغراء ... معتجرا بأثواب السنا)
الصفحة 140