كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

الْأَعْدَاء فَزَاد خلوصهم مَعَ الِابْتِلَاء وَالذَّهَب يزِيد خلوصا على السبك وَالدُّعَاء لأولياء الْإِسْلَام وحماته الْأَعْلَام بنصر لمضائه فِي العدي أعظم الفتك وَيسر بِقَضَائِهِ دَرك آمال الظُّهُور وأحفل بذلك الدَّرك فَكَتَبْنَاهُ إِلَيْكُم كتب الله لكم رسوخ الْقدَم وسبوغ النعم من حضرتنا مَدِينَة فاس المحروسة وصنع الله سُبْحَانَهُ يعرف مَذَاهِب الألطاف ويكيف مواهب تلهج الْأَلْسِنَة فِي الْقُصُور عَن شكرها بالاعتراف وَيصرف من أمره الْعَظِيم وقضائه المتلقى بِالتَّسْلِيمِ مَا يتكون بَين النُّون وَالْكَاف ومكانكم العتيد سُلْطَانه وسلطانكم الْمجِيد مَكَانَهُ وولاؤكم الصَّحِيح برهانه وعلاؤكم الفسيح فِي مجَال الْجلَال ميدانه وَإِلَى هَذَا زَاد الله سلطانكم تمكينا وَأفَاد مقامكم تحصينا وتحسينا وسلك بكم من سنَن من خلفتموه سَبِيلا مُبينًا فَلَا خَفَاء بِمَا كَانَت عقدته أَيدي التَّقْوَى ومهدته الرسائل الَّتِي على الصفاء تطوى بَيْننَا وَبَين والدكم نعم الله روحه وقدسه وبقربه مَعَ الْأَبْرَار فِي عليين أنسه من مؤاخاة أحكمت مِنْهَا العهود تالية الْكتب والفاتحة وَحفظ عَلَيْهَا مُحكم الْإِخْلَاص معوذاتها الْمحبَّة وَالنِّيَّة الصَّالِحَة فانعقدت على التَّقْوَى والرضوان واعتضدت بتعارف الْأَرْوَاح عِنْد تنازح الْأَبدَان حَتَّى استحكمت وصلَة الْوَلَاء والتأمت كلحمة النّسَب لحْمَة الإخاء فَمَا كَانَ إِلَّا وشيكا من الزَّمَان وَلَا عجب قصر زمن الوصلة أَن يشكوه الخلان ورد وَارِد أورد رنق المشارب وحقق قَول وَمن يسْأَل الركْبَان عَن كل غَائِب أنبأ باستثارة الله تَعَالَى بِنَفسِهِ الزكية وإكنان درته السّنيَّة وانقلابه إِلَى مَا أعد لَهُ من الْمنَازل الرضوانية بجليل مَا وقر لفقده فِي الصُّدُور وعظيم مَا تأثرت لَهُ النُّفُوس لوُقُوع ذَلِك الْمَقْدُور حنانا لِلْإِسْلَامِ بِتِلْكَ الأقطار وإشفاقا من أَن يعتور قاصدي بَيت الله الْحَرَام من جراء الْفِتَن عَارض الْإِضْرَار ومساهمة فِي مصاب الْملك الْكَرِيم وَالْوَصِيّ الْحَمِيم ثمَّ عميت الْأَخْبَار وطويت طي السّجل الْآثَار فَلم نر مخبرا صدقا وَلَا معلما بِمن اسْتَقر لَهُ ذَلِكُم الْملك حَقًا وَفِي أثْنَاء ذَلِك حفزنا للحركة عَن حضرتنا استصراخ أهل الأندلس وسلطانها وتواتر الْأَخْبَار بِأَن النَّصَارَى أَجمعُوا على خراب أوطانها وَنحن أثْنَاء ذَلِك الشَّأْن نستخبر الوراد من تلكم الْبلدَانِ عَمَّا أجلى عَنهُ ليل الْفِتَن بتلكم الأوطان فَبعد لأي
تصلح أَحْوَالهم ويراجعون الطَّاعَة وَلما سرحهم نكثوا الْعَهْد وازدادوا تمردا فَلَمَّا أعيا السُّلْطَان أَمرهم وكل أَمرهم إِلَى الله وعزم على الْخُرُوج من مكناسة إِلَى فاس لما حدث بهَا من الشغب أَيْضا فولى على مكناسة وجند العبيد وَلَده الْمولى الْحسن وَكَانَ لَهُ علم وحزم ثمَّ خرج السُّلْطَان رَحمَه الله من مكناسة لَيْلًا على خطر عَظِيم وَأسرى ليلته وَلم يعلم البربر بِخُرُوجِهِ حَتَّى أصبح وَقد جَاوز المهدومة وشارف وَادي النجَاة فتبعوه على الصعب والذلول ونهبوا كل من تخلف من الْجَيْش واستولوا على كثير من روام السُّلْطَان وَكَانَ مَعَ السُّلْطَان فِي تِلْكَ اللَّيْلَة المرابط الْبركَة أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن حَمْزَة العياشي فَجعل يكف البربر عَن الْجَيْش فَلم يغن شَيْئا لِأَنَّهُ كَانَ كلما كفهم من نَاحيَة أَغَارُوا من نَاحيَة أُخْرَى وخلص السُّلْطَان إِلَى فاس وَقد ازْدَادَ حنقة على البربر فَلَمَّا دَخلهَا أَمر بِنَهْب دور البربر القاطنين بفاس فنهبوا كل من فِيهِ رَائِحَة البربرية وَلَو قَدِيما فَكَانَ ذَلِك فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَادًا كَبِيرا وَأقَام السُّلْطَان بفاس إِلَى رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ خرج لإِصْلَاح نواحي بِلَاد الهبط فوصل فِي خرجته هَذِه إِلَى قصر كتامة فمهد تِلْكَ الْبِلَاد وَأمن سبلها وَرجع إِلَى رِبَاط الْفَتْح فَقدم عَلَيْهِ بهَا قبائل الْحَوْز على بكرَة أَبِيهِم من حاحا والشياظمة وَعَبدَة والرحامنة وَأهل السوس والسراغنة وزمران وَأهل دكالة وقبائل الشاوية وتادلا وَقدم عَلَيْهِ أَيْضا قبائل بني حسن وَعبيد الدِّيوَان وَقبض فِي هَذِه الْمرة على نَحْو الْمِائَة من زعير وأودعهم السجْن وَدخل شهر رَمَضَان فَفرق عُمَّال الْقَبَائِل كلا إِلَى عمله وَأمرهمْ بالقدوم عَلَيْهِ لعيد الْفطر ويستصحبوا زكواتهم وأعشارهم وَكَانَ قد عزم على الْمقَام برباط الْفَتْح إِلَى أَن يُقيم سنة الْعِيد بِهِ وتجتمع عَلَيْهِ العساكر فَيتَوَجَّه بهَا لغزو البربر ثمَّ بدا لَهُ رَحمَه الله فسافر مَعَ قبائل الْحَوْز إِلَى مراكش فِي عَاشر رَمَضَان الْمَذْكُور
(فلنمدحنك فِي الْحَيَاة وَإِن نمت ... قَامَت عظامتنا بمدحك بَعدنَا)
(خُذْهَا إِلَيْك خريدة فكرية ... طلعت بغيظ قُلُوب أَبنَاء الزِّنَى)
(بهرت قُلُوب ذَوي النَّهْي بمحاسن ... منعت خرائد فكرهم أَن تحسنا)
(فاصرف إِلَيْهَا منَّة عين الرضى ... وامنع بِفَضْلِك حسنها أَن يغبنا)
(دَامَت إِلَيْك من الْمُهَيْمِن نصْرَة ... تدع المعاند ضارعا مستهجنا)
(بِمُحَمد الْمُخْتَار جدك خير من ... قد أوضح النهج الْقَدِيم وَبينا)
(صلى عَلَيْهِ الله مَا جن الدجى ... وأمالت الرّيح الْجنُوب الأغصنا)
(والآل والصحب الصناديد الذرى ... والمانحي قصادهم نيل المنا)
ثمَّ شرع السُّلْطَان أعزه الله بِجمع الْعَسْكَر وتنظيمه زِيَادَة على مَا كَانَ فِي حَيَاة وَالِده فألزم أهل فاس بِخَمْسِمِائَة وألزم أهل العدوتين بستمائة وألزم غَيرهمَا من الثغور بمائتين مِائَتَيْنِ وَلم يتَّخذ من مراكش وَلَا أَعمالهَا شَيْئا فصعب على النَّاس ذَلِك وجمعوا مِنْهُ مَا قدرُوا عَلَيْهِ واعتنى السُّلْطَان أعزه الله بِهِ فَكَانَ يُبَاشر عرضه وترتيبه بِنَفسِهِ وَفِي أَيَّام مقَامه بفاس نبغ نابغ بأعمال وَجدّة يُقَال لَهُ أَبُو عزة الهبري من هبرة بطن من سُوَيْد وسُويد من عرب بني مَالك بن زغبة الهلاليين وَكَانَ هَذَا الرجل فِيمَا زَعَمُوا يخط فِي الرمل وَيتَعَاطَى بعض السحريات فَتَبِعَهُ بعض الأوباش الَّذين لَا شغل لَهُم وتأشبوا عَلَيْهِ ودنا من أَطْرَاف الإيالة وَقَوي حسه وَكَانَ السُّلْطَان أعزه الله عَازِمًا على النهوض إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَة وتمهيدها وَنفي الدجاجلة عَنْهَا فاستعد غَايَة الاستعداد وجدد الفساطيط وكسى الْجنُود فرسانها ورماتها قديمها وحديثها وعرضها كلهَا ثمَّ نَهَضَ من فاس منتصف رَجَب سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما بَات فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة بآيت شغروسن أغار على الْمحلة لَيْلًا أَبُو عزة الهبري وَمَعَهُ سعيد بن أَحْمد الشغروسني وَيُقَال إِنَّه إدريسي النّسَب فماجت الْمحلة بعض الشَّيْء ثمَّ تراجع النَّاس وَأخذُوا مراكزهم وصوبوا المدافع وآلات الْحَرْب نَحْو عدوهم فشردوهم فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بهم وَقبض على عدد من أَصْحَابه وَقطعت رُؤُوس مِنْهُم وَتقدم السُّلْطَان أعزه الله

الصفحة 142