كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
وقعنا مِنْهَا على الْخَبِير وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير وتعرفنا أَن الْملك اسْتَقر مِنْكُم فِي نصابه وتداركه الله تَعَالَى مِنْكُم بفاتح الْخَيْر من أبوابه فأطفأ بكم نَار الْفِتْنَة وأخمدها مِنْهُ أدواء النِّفَاق مَا أعل الْبِلَاد وأفسدها فَقَامَ سَبِيل الْحَج سابلا وَعبر طَرِيقه لمن جَاءَ قَاصِدا وقافلا وَلما احتفت بِهَذَا الْخَبَر الْقَرَائِن وتواتر بِنَقْل الْحَاضِر المعاين أثار حفظ الإعتقاد البواعث والود الصَّحِيح تجره حَقًا الموارث فأصدرنا لكم هَذِه المخاطبة المتفننة الأطوار الجامعة بَين الْخَبَر والإستخبار الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار وَمثل ذَلِك الْملك رضوَان الله عَلَيْهِ من تجل المصائب لفقدانه وَتحل عرى الإصطبار بِمَوْتِهِ ولات حِين أَوَانه وَلَكِن الصَّبْر اجمل مَا ارتداه ذُو عقل حُصَيْن وَالْأَجْر أولى مَا اقتناه ذُو دين متين ومثلكم من لَا يخف وقاره وَلَا يشف عَن ظُهُور الْجزع الْحَادِث اصطباره وَمن خلفتموه فَمَا مَاتَ ذكره وَمن قُمْتُم بأَمْره فَمَا زَالَ بل زَاد فخره وَقد طَالَتْ وَالْحَمْد لله العيشه الراضية بالحقب وطاب بَين مبداه ومحتضره هَنِيئًا بِمَا من الْأجر اكْتسب وَصَارَ حميدا إِلَى خير مُنْقَلب ووفد من كرم الله على أفضل مَا منح موقنا ووهب فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدسة وحماية زوار بَيته مقيلة أَو معرسة وَنحن بعد بسط هَذِه التَّعْزِيَة نهنيكم بِمَا خولكم الله أجمل التهنية وَفِي ذَات الله الْإِيرَاد والإصدار وَفِي مرضاته سُبْحَانَهُ الْإِضْمَار والإظهار فَاسْتَقْبلُوا دولة ألْقى الْعِزّ عَلَيْهَا رواقه وَعقد الظُّهُور عَلَيْهَا نطاقه وَأَعْطَاهُ أَمَان الزَّمَان عقده وميثاقه وَنحن على مَا عاهدنا عَلَيْهِ الْملك النَّاصِر رضوَان الله عَلَيْهِ من عهود موثقة وموالاة مُحَققَة وثناء كمائمه عَن أذكى من الزهر غب الْقطر مفتقه وَلم يغب عَنْكُم مَا كَانَ من بعثنَا المصحفين الأكرمين اللَّذين خطتهما منا الْيَمين وآوت بهما الرَّغْبَة من الْحَرَمَيْنِ الشريفين إِلَى قَرَار مكين وَإنَّهُ كَانَ لوالدكم الْملك النَّاصِر تولاة الله برضونه وَأوردهُ موارد إحسانه فِي ذَلِكُم من الْفِعْل الْجَمِيل والصنع الْجَلِيل مَا ناسب مَكَانَهُ الرفيع وشاكل فَضله من الْبر الَّذِي لَا يضيع حَتَّى طبق فعله الْآفَاق ذكرا وطوق أَعْنَاق الوراد والقصاد برا وَكَانَ من أجمل مَا بِهِ تحفى وأتحف وَأعظم مَا بعرفه إِلَى الْملك العلام فِي ذَلِك تعرف إِذْنه
ذكر مَا حدث من الْفِتَن بفاس وأعمالها بعد سفر السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان إِلَى مراكش
لما عزم السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله على السّفر إِلَى مراكش ندب جند العبيد إِلَى السّفر مَعَه فتثاقلوا عَلَيْهِ وَظهر مِنْهُم قلَّة المبالاة بِهِ وأحس مِنْهُم بذلك فَأَعْرض عَنْهُم وَبعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ انْسَلَّ من بَين أظهرهم وَقصد محلّة أهل الْحَوْز فَدخل قبَّة الْقَائِد مُحَمَّد بن الجيلاني ولد مُحَمَّد الصَّغِير السرغيني وَكَانَ السُّلْطَان يطمئن إِلَيْهِ مُنْذُ كَانَ رَفِيقه فِي نكبته عِنْد ظيان إِذا كَانَ ابْن الجيلاني الْمَذْكُور مأسورا عِنْدهم وسرحوه للسُّلْطَان فرافقه إِلَى مكناسة حَسْبَمَا مر وَلما احتل السُّلْطَان بمحلة أهل الْحَوْز ازْدَادَ فَسَاد نِيَّة العبيد وسافر السُّلْطَان إِلَى مراكش وَترك مضاربه وأثاثه بيدهم فتوزعوها وعادوا إِلَى مكناسة وَسمع النَّاس بِمَا ارْتَكَبهُ هَؤُلَاءِ العبيد فِي حق السُّلْطَان فَعَاد شباب الْفِتْنَة إِلَى عنفوانه وسرى فِي الحواضر والبوادي سم أفعوانه فخب عبيد مكناسة بعد قدوم إخْوَانهمْ عَلَيْهِم فِي الْفِتْنَة وَوَضَعُوا وَامْتنع عُمَّال الغرب وَبني حسن من دفع الزكوات والأعشار وطردوا جباة السُّلْطَان وَعمد الودايا بفاس إِلَى حارة الْيَهُود الَّتِي بَين أظهرهم بفاس الْجَدِيد فانتهبوها واستصفوا موجودها وَأخذُوا مَا كَانَ تَحت أَيدي الْيَهُود من كتَّان وحرير وَفِضة وَذهب لتجار أهل فاس إِذْ كَانُوا يخيطون لَهُم ويصنعون مَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَى خياطته وصنعته فَضَاعَت فِي ذَلِك أَمْوَال لَا يحصيها قلم حاسب ثمَّ جردوهم رجَالًا وَنسَاء وَسبوا نِسَاءَهُمْ وافتضوا أبكارهم وسفكوا دِمَاءَهُمْ وَشَرِبُوا الْخُمُور فِي نَهَار رَمَضَان وَقتلُوا الْأَطْفَال ازدحاما على النهب ثمَّ تجاوزوا هَذَا كُله إِلَى حفر الْبيُوت على الدفائن فوقعوا بِسَبَب ذَلِك على أَمْوَال طائلة وَلما رَأَوْا ذَلِك قبضوا على أعيانهم وتجارهم وصادروهم بِالضَّرْبِ والنكال ليدلوهم على مَا دفنوه من المَال وَمن عِنْده يَهُودِيَّة حسناء حالوا بَينه وَبَينهَا حَتَّى يفتديها بِالْمَالِ وَكَانَ هَذَا الْحَادِث الْعَظِيم فِي الثَّالِث عشر من رَمَضَان سنة
فِي جموع مؤلفة من الْجَيْش السعيد المظفر وأنجاد نظام الْعَسْكَر وغزاة الْقَبَائِل الغربية بربرية وعربية إِلَى بني سادان وآيت شغروسن فأوقع بهم وَقتل وَأسر وانتسفت الجيوش زُرُوعهمْ وبعثرت أَرضهم وديارهم فلجؤوا إِلَى بني وراين فَأمر السُّلْطَان أيده الله بِقِتَال الْجَمِيع ثمَّ جَاءَ بَنو وراين متنصلين متبرئين إِلَى السُّلْطَان مِنْهُم فقبلهم وَولى عَلَيْهِم رجلا من أعيانهم ثمَّ جَاءَ بَنو سادان وآيت شغروسن تَائِبين خاضعين فَعَفَا عَنْهُم ووظف عَلَيْهِم مائَة ألف مِثْقَال وَزِيَادَة أَرْبَعمِائَة من الْخَيل فأذعنوا لأدائها واستوفاها السُّلْطَان أعزه الله مِنْهُم فِي أَوَائِل شعْبَان من السّنة ثمَّ تقدم إِلَى تازا فَدَخلَهَا فِي أَوَائِل الشَّهْر الْمَذْكُور وَلما احتل بهَا قدمت عَلَيْهِ وُفُود قبائلها مُتَمَسِّكِينَ بِحَبل الطَّاعَة داخلين فِيمَا دخلت فِيهِ الْجَمَاعَة فرحين مغتبطين وَبِكُل مَا أمكنهم من الْخدمَة متقربين وَجَاءَت عرب الأحلاف وَمن جاورهم حاملين هوادجهم المحلاة بِأَحْسَن حليهم وشاراتهم الَّتِي يستعملونها فِي مواسمهم وزيهم فقابل السُّلْطَان أعزه الله كلا بِمَا يجب من المجاملة وَحسن الْمُعَامَلَة مَا عدا ثَلَاث فرق من غياثة المجاورين لتازا وهم بَنو أبي قيطون وَأهل الشقة وَأهل الدولة فَإِنَّهُم كَانُوا يضرون بِأَهْل تازا ويغيرون عَلَيْهِم فألزمهم السُّلْطَان أيده الله بأَدَاء مَا تعلق لَهُم بِذِمَّتِهِمْ فأدوه فِي الْحَال ثمَّ وظف عَلَيْهِم ثَلَاثِينَ ألف ريال أُخْرَى لبيت المَال فأدوها أَيْضا عَن طيب أنفسهم وَمن عداهم من أهل غياثة فَإِنَّمَا أَدّوا الزكوات والأعشار وأظهروا حسن الطَّاعَة والامتثال وَفِي هَذِه الْأَيَّام جِيءَ إِلَى السُّلْطَان بالهبري أَسِيرًا فَإِنَّهُ لما خرج السُّلْطَان أعزه فِي طلبه وَطلب غَيره أبعد فِي الصَّحرَاء وَلم تزل تلفظه الْبِلَاد وتتدافعه الشعاب والوهاد إِلَى أَن ساقته خَاتِمَة النكال إِلَى قَبيلَة بني كلال وهم على أَربع مراحل من تازا فقبضوا عَلَيْهِ وجاؤوا بِهِ إِلَى السُّلْطَان أَسِيرًا حَتَّى أوقفوه بَين يَدَيْهِ مصفدا كسيرا فأظهر الهبري الْجزع وتضرع وخضع فحقن السُّلْطَان أعزه الله دَمه وَأمر بِهِ فطيف فِي الْمحلة على جمل ثمَّ أَمر ببعثه إِلَى فاس فسجن بهَا بعد أَن طيف
الصفحة 143