كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
وَرِجَال وَأهل وبنين وَلَا رزئوا مَالا وَلَا عدَّة وَلَا لقوا فِي خُرُوجهمْ غير النزوح عَن أول أَرض مس الْجلد ترابها شدَّة ووصلوا إِلَيْنَا فأجزلنا لَهُم الْعَطاء وأسليناهم عَمَّا جرى بالحباء فَمن خيل تزيد على الْألف عتاقها وخلع تربى على عشرَة آلَاف أطواقها وأموال عَمت الْغَنِيّ وَالْفَقِير ورعاية شملت الْجَمِيع بالعيش النَّضِير كف الله ضرّ الطواغيت عَمَّا عَداهَا وَمَا انقلبوا بِغَيْر مَدَرَة عَفا رسمها وصم صداها وَقد كَانَ من لطف الله حِين قضى بِأخذ هَذَا الثغر أَن قدر لنا فتح جبل طَارق من أَيدي الْكفْر وَهُوَ المطل على هَذِه المدرة والفرصة مِنْهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى متيسرة حَتَّى يفرق عقد الْكفَّار ويفرج بِهَذِهِ الْجِهَة مِنْهُم مجاورو هَذِه الأقطار فلولا إجلابهم من كل جَانب وكونهم سدوا مَسْلَك العبور بِمَا لجميعهم من الأجفان والمراكب لما بالينا بأصفاقهم ولحللنا بعون الله عقد اتِّفَاقهم وَلَكِن للموانع أَحْكَام وَلَا راد لما جرت بِهِ الأقلام وَقد أمرنَا لذَلِك الثغر بمزيد المدد وتخيرنا لَهُ ولسائر تِلْكَ الْبِلَاد الْعدَد وَالْعدَد وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السّفر ونرتبط الْجِيَاد وننتخب الْعدَد لوقت الظُّهُور المنتظر ونكون على أهبة الْجِهَاد وعَلى مرقبة الفرصة عِنْد تمكنها فِي الأعاد وَعند عودنا من تِلْكَ المحاولة نيسر الركب الْحِجَازِي موجها إِلَى هُنَاكُم رواحله فأصدرنا إِلَيْكُم هَذَا الْخطاب إصدار الود الْخَالِص وَالْحب اللّبَاب وَعِنْدنَا لكم مَا عِنْد أحنى الْآبَاء واعتقادنا فِيكُم فِي ذَات الله لَا يخْشَى جديده من الْبلَاء ومالكم من غَرَض بِهَذِهِ الأنحاء موفي قَصده على أكمل الْأَهْوَاء موَالِي تتميمه على أجمل الأراء والبلاد باتحاد الود متحدة والقلوب وَالْأَيْدِي على مَا فِيهِ مرضاة الله عز وَجل منعقدة جعل الله ذَلِكُم خَالِصا لرب الْعباد مدخورا ليَوْم التناد مسطورا فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة يَوْم الْمعَاد بمنه وفضله هُوَ سُبْحَانَهُ يصل إِلَيْكُم سَعْدا تتفاخر بِهِ سعود الْكَوَاكِب وتتضافر على الانقياد لَهُ صُدُور المواكب وتتقاصر عَن نيل مجده متطاولات المناكب وَالسَّلَام الأتم يخصكم كثيرا أثيرا وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَكتب فِي يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين لشهر صفر الْمُبَارك من عَام خَمْسَة وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَصُورَة الْعَلامَة وَكتب فِي التَّارِيخ المؤرخ
(وَإِمَام الْأَنَام يُحِلهُمْ عَنْهُم ... ويوالي وَمَا يُفِيد الْوَلَاء)
(نهبوا حارة الْيَهُود وهدوا ... دُورهمْ وعرى النِّسَاء سباء)
(لَو تراهم بَين الرعايا عُرَاة ... يحتذيهم رِجَالهمْ وَالنِّسَاء)
(خفروا ذمَّة النَّبِي فذموا ... لعماء فَلَا سقاهم عماء)
(يَا إِمَام الْهدى عَلَيْك بِقوم ... مَلأ الغرب بغيهم والبغاء)
(قد طم ظلمهم وَعم أذاهم ... وانجلى عَنْهُم فَحق الْجلاء)
(كم سدلت عَلَيْهِم أَي ستر ... ووهبت فَمَا أَفَادَ الْعَطاء)
(وحدوت إِلَى الرشاد فحادوا ... ودعوت فَمَا أَفَادَ الدُّعَاء)
(نلْت رشدا برشدهم وجهادا ... فَأبى مِنْهُم الرشاد إباء))
(وَإِذا خذل الْإِلَه أُنَاسًا ... من محياهم يَزُول الْحيَاء)
(فعبيد الْإِلَه خير عبيد ... قد كفى مِنْهُم الإِمَام كفاء)
(حَاربُوا ضاربوا على الْحق راعوا ... ذمَّة الله لَا عداهم عَلَاء)
(فاتخذهم مواليا وجنودا ... واصطفيهم فَإِنَّهُم أصفياء)
(قد أصَاب الأعادي مِنْهُم عَذَاب ... ودهى مِنْهُم الدهاة دهاء)
(وَإِذا سخر الْإِلَه أُنَاسًا ... لسَعِيد فَإِنَّهُم سعداء)
(يَا إِلَه الْأَنَام خُذ بيدَيْهِ ... وأعنه فقد عناه العناء)
(فينام الْأَنَام فِي ظلّ أَمن ... ورداه للماردين رِدَاء)
(وَعَلِيهِ السَّلَام مَا سَار سَار ... وشدت فَوق وَرقهَا الورقاء)
ثمَّ حدث على تفئة ذَلِك فتْنَة أُخْرَى بفاس بِسَبَب نزاع جرى بَين قاضيها الْفَقِيه أبي الْفضل عَبَّاس بن أَحْمد التاودي وَبَين مفتيها الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الدكالي فِي قَضِيَّة الشريفين الشفشاوني والعراقي من أهل فاس وَهِي مَعْلُومَة فأنهى الْأَمر إِلَى السُّلْطَان فَأخر الْفَقِيه أَبَا عبد الله عَن الْفَتْوَى فَغَضب للمفتي جمَاعَة من المدرسين وطلبة الْعلم وتعصبوا لَهُ وتحزبوا على القَاضِي فَكَتَبُوا رسما يتَضَمَّن الشَّهَادَة بجوره وجهله وَوَضَعُوا خطوطهم وناطوا بِهِ قصيدة تَتَضَمَّن الشكوى بِهِ وَشرح حَاله للسُّلْطَان ووجهوا بهما إِلَيْهِ وَنَصّ القصيدة
وَجه السُّلْطَان أيده الله ابْن الشليح الْمَذْكُور واليا على وَجدّة وأعمالها وجابيا لأموالها وناظرا فِي شؤونها وَأَحْوَالهَا فَقَامَتْ قِيَامَة ولد البشير وَعلم أَنه لَا يصفو لَهُ عَيْش مَعَه فعزم على أَن يطرده عَن تِلْكَ الْبِلَاد وَيَردهُ من حَيْثُ جَاءَ وَكَانَ ولد البشير هَذَا حسن الطَّاعَة للسُّلْطَان إِلَّا أَنه انفسد أمره بِمَا ذَكرْنَاهُ وَلما قرب ابْن الشليح من أرضه خرج إِلَيْهِ فِي خيله وَرجله وَلما الْتَقت مُقَدّمَة الْجَيْش بهم انتشبت الْحَرْب بَينهم وَقَامَت الْفِتْنَة على سَاق وَكَانَ غَرَض ولد البشير أَن يضم إِلَيْهِ أَخا السُّلْطَان وجيشه وَيقوم بخدمتهم ويطرد عَنهُ عدوه فَقَط فَلم يستقم لَهُ ذَلِك وَكَانَ رَأْيه هَذَا خطأ إِذْ لَيست هَذِه بِطَاعَة كَمَا لَا يخفى ثمَّ انهزم الْجَيْش وعمدت بَنو يزناسن وَالْعرب إِلَى الْمحلة فانتهبوها وَعَاد عبد الرَّحْمَن بن الشليح إِلَى السُّلْطَان أعزه الله وَهُوَ بفاس فَأخْبرهُ الْخَبَر وبإثر ذَلِك كتب ابْن البشير إِلَى السُّلْطَان يتنصل من أَمر ابْن الشليح ومحلته وَأَنه لَا زَالَ على الطَّاعَة لم يُبدل وَلم يُغير وَإِنَّمَا الَّذِي انتهب الْمحلة هم السُّفَهَاء من غير إِذن لَهُم وَلَا مُوَافقَة على ذَلِك وَحَتَّى الْآن فَكل مَا ضَاعَ من تِلْكَ الْمحلة يُؤَدِّيه بِأَكْثَرَ مِنْهُ فطوى لَهُ السُّلْطَان أيده الله عَلَيْهَا وأرجأ أمره إِلَى وَقت آخر وَكَانَ قد اتَّصل بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت خبر أبي عبد الله مُحَمَّد الكنتافي صَاحب جبل تينملل وَكَانَ أصل هَذَا الرجل أَنه كَانَ من أَشْيَاخ قبيلته وَكَانَ الْمُتَوَلِي عَلَيْهِم هُوَ قَائِد الْجَيْش السُّوسِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن سعيد الجراوي وَكَانَ الكنتافي هَذَا أحذر من غراب وَأَمْنَع من عِقَاب قد اتخذ حصنا فِي رَأس جبل تينملل حَيْثُ كَانَ ظُهُور مهْدي الْمُوَحِّدين حَسْبَمَا مر فِي أخبارهم وتحصن بِهِ وَصَارَ يُؤَدِّي للقائد الجراوي كل مَا يَأْمُرهُ بِهِ من غير توقف إِلَّا أَنه لَا ينزل إِلَيْهِ فَلَمَّا توفّي الجراوي الْمَذْكُور وَولى السُّلْطَان على الْجَيْش السُّوسِي وَمَا أضيف لَهُ وصيفه الْقَائِد أَحْمد بن مَالك ضايق الكنتافي بعض الشَّيْء وَسَار مَعَه بِغَيْر سيرة الجراوي قبله فَأَنف الكنتافي من ذَلِك وأعلن أَنه فِي طَاعَة السُّلْطَان ومتقلد بيعَته يَمُوت عَلَيْهَا وَيبْعَث عَلَيْهَا وَلَا يقبل ولَايَة أَحْمد بن مَالك وَلَو ألقِي فِي النَّار فَكتب أَحْمد بن مَالك إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بفاس يُعلمهُ بِأَن الكنتافي قد خلع الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة وأشاع
الصفحة 146