كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

قَالَ ابْن خلدون فَقضى أَبُو الْفضل بن أبي عبد الله بن ابي مَدين من وفادته مَا حمل وَكَانَ شَأْنه عجبا فِي إِظْهَار أبهة سُلْطَانه والإنفاق على الْمُسْتَضْعَفِينَ من إلحاج فِي طَرِيقه وإتحاف رجال الدولة التركية بِذَات يَده وَالتَّعَفُّف عَمَّا فِي أَيْديهم رَحمَه الله وَقَالَ الْعَلامَة المقريزي وَفِي منتصف شعْبَان من سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة قدمت الْحرَّة أُخْت صَاحب الْمغرب فِي جمَاعَة كَثِيرَة وعَلى يَدهَا كتاب السُّلْطَان أبي الْحسن يتَضَمَّن السَّلَام وَأَن يَدْعُو لَهُ الخطباء فِي يَوْم الْجُمُعَة ومشايخ الصّلاح وَأهل الْخَيْر بالنصر على عدوهم وَيكْتب إِلَى أهل الْحَرَمَيْنِ بذلك اه وَلَعَلَّ هَذَا الْكتاب آخر غير الَّذِي سردناه يتَضَمَّن مَا ذكره وَالله أعلم
ونشخة الْجَواب عَن الْكتاب الَّذِي سردناه من إنْشَاء خَلِيل الصَّفَدِي شَارِح لآمية الْعَجم بعد الْبَسْمَلَة فِي قطع النّصْف بقلم الثُّلُث عبد الله ووليه صُورَة الْعَلامَة وَلَده إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد السُّلْطَان الْملك الصَّالح السَّيِّد الْعَالم الْعَادِل الْمُؤَيد الْمُجَاهِد المرابط المظفر الْمَنْصُور عماد الدُّنْيَا وَالدّين سُلْطَان الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين محيي الْعدْل فِي الْعَالمين منصف المظلومين من الظَّالِمين وَارِث الْملك ملك الْعَرَب والعجم وَالتّرْك فاتح الأقطار واهب الممالك والأمصار إسكندر الزَّمَان مملك أَصْحَاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان ظلّ الله فِي أرضه الْقَائِم بسنته وفرضه مَالك الْبَحْرين خَادِم الْحَرَمَيْنِ الشريفين سيد الْمُلُوك والسلاطين جَامع كلمة الْمُوَحِّدين ولي أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن السُّلْطَان الشَّهِيد السعيد الْملك النَّاصِر نَاصِر الدُّنْيَا وَالدّين أبي الْفَتْح مُحَمَّد بن السُّلْطَان الشَّهِيد السعيد الْملك الْمَنْصُور سيف الدُّنْيَا وَالدّين قلاوون خلد الله تَعَالَى سُلْطَانه وَجعل الْمَلَائِكَة أنصاره واعوانه يخص الْمقَام العالي الْملك الْأَجَل الْكَبِير الْمُجَاهِد الْمُؤَيد المرابط المثاغر الْمُعظم المكرم المظفر المعمر الأسعد الأصعد الأوحد الأمجد السّني السّري الْمَنْصُور أَبَا الْحسن عَليّ بن أَمِير الْمُسلمين أبي سعيد عُثْمَان بن أَمِير الْمُسلمين أبي يُوسُف يَعْقُوب بن عبد الْحق أمده الله بالظفر وَقرن عزمه بالتأييد فِي الآصال وَالْبكْر سَلام وشت البروق وشائعه وادخرت الْكَوَاكِب ودائعه
(يَا أَيهَا الْملك الَّذِي عَدَالَته ... أحيت مآثرها الصّديق أَو عمرا)
(يَا أَيهَا الْملك الَّذِي مناقبه ... فِي غرَّة الدَّهْر قد لاحت لنا قمرا)
(أَنْت الَّذِي وضع الْأَشْيَاء موضعهَا ... وَفِي الْعُلُوم الَّذِي أَحْيَا الَّذِي اندثرا)
(أَنْت الَّذِي صير الدّين القويم كَمَا ... أوصى بِهِ من سما الْأَمْلَاك والبشرا)
(وَلم يزل بك فِي عز وَفِي حرم ... يجني ذَوُو الْعلم من رياضة ثمرا)
(تذب عَنهُ بأسياف وآونة ... بفكرة تحكم الْأَحْكَام والصورا)
(وَمن يرم هَدمه تَأْخُذهُ صَاعِقَة ... من راحتيك فَلَا تبقى لَهُ أثرا)
(وَقد شكا الدّين من هضم وَمن كمد ... أَصَابَهُ فَهُوَ يبكي الدمع منهمرا)
(سطت عَلَيْهِ يَد القَاضِي الَّذِي غمرت ... أقضية الْجور مِنْهُ البدو والحضرا)
(أعفى مراسمه جورا وأبدله ... جهلا بِمَا يذهب الْأَلْبَاب والفكرا)
(جَاءَ الْولَايَة وَهُوَ من شبيبته ... يرى القضا حِرْفَة يجني بهَا وطرا)
(فَلم يكن همه فِيهِ سوى قنص ... أَو نخوة تتْرك الضَّعِيف منكسرا)
(أما حُقُوق الورى فَإِنَّهَا عدم ... مَجْهُولَة جعلت منبوذة بعرا)
(فاستنقذت مِلَّة الْمُخْتَار جدك من ... هَذَا الَّذِي مَا درى وردا وَلَا صَدرا)
(يَأْتِي الْحُكُومَة عباسا ومنقبضا ... مِمَّا بِهِ من سقام يجلب الكدرا)
(فَلَا يرى أرسم الْخَصْمَيْنِ من ملل ... لَكِن يحكم أوهاما بهَا جَهرا)
(ويستبد بِرَأْيهِ وَحَيْثُ بَدَت ... فَتْوَى تبصره ألْقى بهَا حجرا)
(وَلَا يُمكن خصما قد دَعَاهُ إِلَى ... تسجيله مَا رأى فِي الحكم مُعْتَبرا)
(ملت قُلُوب الورى مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُم ... إلاك يَا من بِهِ الْإِسْلَام قد نصرا)
(ضجوا لعزتكم يَشكونَ سيرته ... بعبرة تتْرك الْفُؤَاد منفطرا)
(فأدركن يَا عماد الدّين صارمه ... رعية ترتجي من حلمكم مَطَرا)
(فأنزلنه لقد طَغى بعزته ... وَلم يخف فِي غَد لظى وَلَا سقرا)
(واصرفه عَنْهُم كصرفه ضعيفهم ... واعزله عزلا فَإِن الْأَمر قد أمرا)
(فَأَنت غيثهم إِن أزمة أزمت ... وَأَنت كهفهم إِن حَادث ظهرا)
وَلما وصل الرَّسْم وَالْقَصِيدَة إِلَى السُّلْطَان رأى أَن ذَلِك من التعصب الَّذِي يحدث بَين الأقران فرفضه لكَمَال أناته وعقله وَلم يقبل شَهَادَة عَالم
المرجفون بِأَنَّهُ يحاول الِاسْتِقْلَال بِالْأَمر التفاتا إِلَى مَا كَانَ لسلفه من أهل ذَلِك الْجَبَل مُنْذُ سَبْعمِائة سنة وَرُبمَا حن هُوَ إِلَى ذَلِك أَيْضا وَقد حكى ابْن خلدون أَن أهل ذَلِك الْجَبَل كَانُوا فِي زَمَانه على هَذَا الِاعْتِقَاد
(تخرصا وأحاديثا ملفقة ... لَيست بنبع إِذا عدت وَلَا غرب)
وَاسْتَأْذَنَ أَحْمد بن مَالك السُّلْطَان أعزه الله فِي غَزْو هَذَا الكنتافي فَأذن لَهُ فَبعث إِلَيْهِ كَتِيبَة من الْجند ففضها الكنتافي فازداد المرجفون تقولا وتخرصا ثمَّ بعث إِلَيْهِ ابْن مَالك جَيْشًا آخر أعظم من الأول فَهَزَمَهُ الكنتافي أَيْضا وَقبض على جمَاعَة مِنْهُم بِالْيَدِ فَمن كَانَ من جَيش السُّلْطَان سرحه إِظْهَارًا للطاعة وَمن كَانَ من الْقَبَائِل الْمُجَاورَة لَهُ ضرب عُنُقه وَكَانُوا عددا وافرا فتفاحش أَمر الكنتافي فِي الْحَوْز وَكَاد يَسْتَحِيل إِلَى فَسَاد فَبعث وَلَده إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان بفاس وَكتب لَهُ بشرح قَضيته وَأَنه مظلوم من قبل أَحْمد بن مَالك وَمَا ارْتَكَبهُ فِي حق الْجَيْش إِنَّمَا هُوَ مدافعة عَن نَفسه وَأَنه لم يقتل جنديا قطّ وَبَالغ فِي التنصل وَتَقْدِيم الشفاعات والذبائح والعارات فأرجأ السُّلْطَان أعزه الله أمره ونهض من فاس منتصف رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فوصل إِلَى رِبَاط الْفَتْح لَيْلَة عيد الْفطر فاتفق أَن وَقع بهَا نادرة وَهِي أَن جمَاعَة من شُهُود اللفيف اثنى عشر جاؤوا إِلَى القَاضِي أبي عبد الله بن إِبْرَاهِيم رَحمَه الله لَيْلَة التَّاسِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان وشهدوا عِنْده أَنهم رَأَوْا هِلَال شَوَّال بعد الْغُرُوب رُؤْيَة مُحَققَة لم يلحقهم فِيهَا شكّ وَلَا رِيبَة فَسمع القَاضِي شَهَادَتهم وسجلها وَكتب للسُّلْطَان بذلك وَهُوَ بقرميم فارتحل السُّلْطَان فِي جَوف اللَّيْل وَدخل دَاره وَأصْبح من الْغَد معيدا وَعِيد أهل العدوتين وأعمالهما والجم الْغَفِير من أهل الْمغرب الَّذين حَضَرُوا مَعَ السُّلْطَان وَلما كَانَ ظهر ذَلِك الْيَوْم وَهُوَ التَّاسِع وَالْعشْرُونَ من رَمَضَان حقق الفلكيون من أهل الدولة أَن الْعِيد لَا يُمكن فِي ذَلِك الْيَوْم وَتَكَلَّمُوا بذلك وفاهوا بِهِ فَكثر الْكَلَام بذلك وَكَانَ جلّ النَّاس على شكّ أَيْضا وَلما حَان وَقت الْغُرُوب ارتقب النَّاس الْهلَال وَالسَّمَاء مصحية لَيْسَ فِيهَا قزعة فَلم يرَوا لَهُ أثرا فَأمر السُّلْطَان أعزه الله بالنداء وَأَن النَّاس يُصْبِحُونَ صياما لِأَن رَمَضَان لَا زَالَ فصَام النَّاس من الْغَد وَبعد ذَلِك

الصفحة 147