كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
وَأما مَا ذكرتموه من أَمر المصحفين الكريمين الشريفين الَّذين وقفتموهما على الْحَرَمَيْنِ المنيفين وَإِنَّكُمْ جهزتم كاتبكم الْفَقِيه الْأَجَل الْأَسْنَى الأسمى أَبَا الْمجد ابْن كاتبكم أبي عبد الله بن أبي مَدين أعزه الله لتفقد أحوالهما وَالنَّظَر فِي أَمر أوقافهما فقد وصل الْمَذْكُور بِمن مَعَه فِي حرز السَّلامَة وَأَكْرمنَا نزلهم وسهلنا بالترحيب سبلهم وجمعنا على بذل الْإِحْسَان إِلَيْهِم شملهم وَحضر الْمَذْكُور بَين أَيْدِينَا وقربناه وَسَمعنَا كَلَامه وخاطبناه وأمرنا فِي أَمر المصحفين الشريفين بِمَا أشرتم ورسمنا لنوابنا فِي توخي أوقافهما بِمَا ذكرْتُمْ وَهَذَا الْوَقْف المبرور جَار على أحسن عَادَة ألفها وَأثبت قَاعِدَة عرفهَا مرعي الجوانب محمي الْمنَازل وَالْمُضَارب آمن إِزَالَة رسمه أَو إذالة حكمه بدره أبدا فِي مطالع تمه وزهرة دَائِما يرقص فِي كمه لَا يزْدَاد إِلَّا تخليدا وَلَا إِطْلَاق ثُبُوته إِلَّا تقييدا وَلَا عنق اجْتِهَاده إِلَّا تقليدا جَريا على قَاعِدَة أوقاف ممالكنا وَعَادَة تصرفاتنا فِي مسالكنا وَله مزِيد الرِّعَايَة وإفادة الحماية ووفادة الْعِنَايَة وَأما مَا وصفتموه من أَمر الجزيرة الخضراء وَمَا لاقاه أَهلهَا ومني بِهِ من الْكفَّار حزنها وسهلها فَإِنَّهُ شقّ علينا سَمَاعه الَّذِي أنكى أهل الْإِيمَان وَعدد بِهِ نوب الزَّمَان كل قلب بأنامل الخفقان وطالما فزتم بالظفر ورزقتم النَّصْر على عَدوكُمْ فجر ذيل الْهَزِيمَة وفر وَلَكِن الْحَرْب سِجَال وكل زمَان لدوائره دولة ولرجائه رجال وَلَو أمكنت المساعدة لطارت بِنَا إِلَيْكُم عقبان الْجِيَاد المسومة وسالت على عَدوكُمْ أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقومة وكحلنا عين النُّجُوم بمراود الرماح وَجَعَلنَا ليل العجاج ممزقا ببروق الصفاح واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات وفرجنا مضايق الْحَرْب بتوالي الكرات وعطفنا عَلَيْهِم الأعنة وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة وفلقنا الصخرات بالصرخات وأسلنا العبرات بالرعبات وَلَكِن أَيْن الْغَايَة من هَذَا المدى المتطاول وَأَيْنَ الثريا من يَد المتناول وَمَا لنا غير إمدادكم بِجُنُود الدُّعَاء الَّذِي نرفعه نَحن ورعايانا والتوجه الصَّادِق الَّذِي تعرفه مَلَائِكَة الْقبُول من سجايانا أما مَا فقدتموه من
بِشَهَادَة الله لِأَنِّي مَا وجدت معينا على الْحق وَكم مرّة تُحَدِّثنِي نَفسِي أَن أترك هَذَا الْأَمر وأتجرد لعبادة رَبِّي حَتَّى أَمُوت فَقَالَ من حضر من أَعْيَان الرحامنة وَغَيرهم يَا مَوْلَانَا بَارك الله لنا فِي عمرك وَجَعَلنَا فداءك وَنحن أمامك ووراءك فمرنا بِمَا تشَاء فقولك مُطَاع وأمرك ممتثل وَمَا رَأينَا مِنْك إِلَّا الْخَيْر فسر السُّلْطَان بمقالتهم ودعا لَهُم بِخَير وَلما فعل مَعَ أهل مراكش هَذَا الْأَمر أَرَادَ أَن يسْلك مثله مَعَ أهل فاس فَوَقع مَا وَقع وَلما بعث السُّلْطَان بِالْكتاب الْمَذْكُور إِلَى ابْنه الْمولى عَليّ بفاس أمره أَن يقرأه على أَهلهَا بِمحضر الْفَقِيه الْمُفْتِي السَّيِّد مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الدكالي والفقيه الشريف السَّيِّد مُحَمَّد بن الطَّاهِر الفيلالي والفقيه الْكَاتِب السَّيِّد أبي الْقَاسِم الظياني والأمين السَّيِّد الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون الفاسي فَجَمعهُمْ الْمولى عَليّ فِي الْمَسْجِد الَّذِي بِبَاب دَاره بزقاق الْحجر وَقَرَأَ عَلَيْهِم الْكتاب الْمَذْكُور وَكَانَ الْمَسْجِد غاصا بالخاصة والعامة فازدحموا عَلَيْهِ ليروا الْكتاب بأعينهم وَأَكْثرُوا عَلَيْهِ فضجر وَقَامَ وَدخل دَاره وأغلقها عَلَيْهِ فَقَالَ بعض النَّاس إِن السُّلْطَان قد خلع نَفسه وَقَالَ لكم قدمُوا من ترضونه وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّه لم يخلع نَفسه وَجعل آخَرُونَ يقرعون بَاب الْمولى عَليّ وَيَقُولُونَ أخرج إِلَيْنَا كتاب السُّلْطَان حَتَّى نقرأه ونعلم مَا فِيهِ فَقَالَ لَهُم إِنِّي أحرقته فازدادوا رِيبَة وَصَدقُوا أَن السُّلْطَان قد خلع نَفسه وَاجْتمعَ رُؤَسَاء أهل فاس مِنْهُم الْحَاج مُحَمَّد بن عبد الرزيق وَالسَّيِّد مُحَمَّد بن سُلَيْمَان وعلال الْعَافِيَة وقدور بن عَامر الجامعي وَلم يكن من أهل فاس وَإِنَّمَا كَانَ قاطنا بالطالعة وَهَؤُلَاء من أهل عدوة الأندلس وَكَذَلِكَ عيرهم من أهل عدوة الْقرَوِيين واللمطيين ثمَّ جمعُوا الطّلبَة الَّذين حَضَرُوا قِرَاءَة الْكتاب وألزموهم أَن يكْتب كل وَاحِد مِنْهُم مَا سمع فَكتب لَك وَاحِد مَا ظهر لَهُ ثمَّ حازوا خطوطهم وخلصوا مِنْهَا مَا هُوَ مُرَادهم وَهُوَ أَن السُّلْطَان عجز وعزل نَفسه وَأمر النَّاس أَن ينْظرُوا لأَنْفُسِهِمْ هَذَا وَالْحَرب قَائِمَة بَين أهل فاس والودايا
فَقدم عَلَيْهِ أَبُو عبد الله مُحَمَّد الكنتافي صَاحب الْجَبَل مستأمنا بالمرابط أبي عَليّ الْحسن بن تيمكيلشت فقابله السُّلْطَان بِالْعَفو والصفح وَأكْرم وفادته وولاه على إخوانه وانقلب إِلَى أَهله مَسْرُورا وَلما حضر عيد المولد الْكَرِيم احتفل السُّلْطَان أيده الله غَايَة الاحتفال على عَادَة أسلافه الْكِرَام قدس الله أَرْوَاحهم وَجعل فِي عليين عدوهم ورواحهم وتشنفت الأسماع بالأمداح النَّبَوِيَّة فِي اللَّيْلَة الْمُبَارَكَة بِالْمَسْجِدِ الْمعد لذَلِك وأنشدت قصائد لأدباء الْعَصْر وَبعد الْعِيد كسا السُّلْطَان نَصره الله جَمِيع الْجَيْش والعسكر وَالْكتاب حَتَّى الْأُمَنَاء والطلبة وَفِي مهل ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة خرج من مراكش يؤم بِلَاد الغرب فَجعل طَرِيقه على ثغر الجديدة فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا بعد أَن زار تربة بني آمغار برباط تيط وتفقد أَحْوَال ثغر الجديدة ووقف على أبراجها وأسوارها وباشر فِي الرماية بالمدفع وَكَانَ رميه صَوَابا بِحَيْثُ أصَاب الْغَرَض أعزه الله وَأهْدى لَهُ جَمِيع تجارها من الْمُسلمين وَالنَّصَارَى وَالْيَهُود فَقبل ذَلِك وكافأ عَلَيْهِ وَكَانَ أعزه الله حِين عزم على النهوض من مراكش قد كتب إِلَى عَامله على مَدِينَة آنفى وَهُوَ الْقَائِد الْأَجَل الأنصح أَبُو عبد الله الْحَاج مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن حمان الجراري أَن يتَقَدَّم إِلَى ثغر الجديدة وَيُقِيم هُنَالك حَتَّى يَأْمُرهُ بِمَا يكون عَلَيْهِ عمله فامتثل الْقَائِد الْمَذْكُور وَلما قدم السُّلْطَان أعزه الله إِلَى الثغر الْمَذْكُور اجْتمع بِهِ الْقَائِد الْمَذْكُور وَطلب مِنْهُ أَن يجدد لَهُ ظهيرا بالتوقير والاحترام حَسْبَمَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ ووالده من قبله مَعَ السُّلْطَان الْأَعْظَم الْمولى عبد الرَّحْمَن وَابْنه السُّلْطَان المرحوم سَيِّدي مُحَمَّد رحمهمَا الله فَأَجَابَهُ أعزه الله إِلَى ذَلِك وَكتب لَهُ ظهيرا يَقُول فِيهِ مَا نَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد وَآله كتَابنَا هَذَا أسماه الله وأعز أمره وَجعل فِي الصَّالِحَات طيه ونشره يسْتَقرّ بيد ماسكه خديمنا الأرضى الطَّالِب مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري ويتعرف مِنْهُ أننا بحول الله وقوته أَنزَلْنَاهُ الْمنزلَة الَّتِي كَانَ بهَا هُوَ ووالده عِنْد أسلافنا الْكِرَام ولحظناه بِعَين الرِّعَايَة والبرور والاحترام هُوَ وَأَوْلَاده وَإِخْوَته فَلَا يرَوا من جانبنا العالي بِاللَّه إِلَّا الْخَيْر لأَنهم خدام أَبنَاء خدام ودارهم دَار الْمحبَّة والنصيحة فَلَا نسلمهم وَلَا نفوتهم وَلَا نضيع لَهُم
الصفحة 149