كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

انْتِقَاض أهل فاس على الْأَمِير أبي بكر ومحاصرته إيَّاهُم

لما استولى الْأَمِير أَبُو بكر على الْمغرب وَملك مَدِينَة فاس كَمَا ذكرنَا نَهَضَ فِي ربيع الأول سنة سبع واربعين وسِتمِائَة إِلَى مَعْدن الْعَوام من بِلَاد فازاز لفتح بِلَاد زناتة وتدويخ نَوَاحِيهَا واستخلف على فاس مَوْلَاهُ السُّعُود بن خرباش من جمَاعَة الحشم أحلاف بني مرين وَكَانَ الْأَمِير أَبُو بكر لما فتح فاسا استبقى من كَانَ فِيهَا من عَسْكَر بني عبد الْمُؤمن من غير نسبهم على الْوَجْه الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ من الْخدمَة مَعَ الْمُوَحِّدين وَكَانَ من جُمْلَتهمْ طَائِفَة من النَّصَارَى نَحْو الْمِائَتَيْنِ وَعَلَيْهِم قَائِد مِنْهُم يُقَال لَهُ شريد الفرنجي فَكَانُوا من حِصَّة السُّعُود هُنَالك فَوَقَعت بَينهم وَبَين شيعَة الْمُوَحِّدين من أهل فاس مداخلة وعزم الفاسيون على الفتك بالسعود وتحويل الدعْوَة إِلَى المرتضى فَاجْتمعُوا إِلَى القَاضِي أبي عبد الرَّحْمَن المغيلي وفاوضوه فِي ذَلِك فوافقهم على رَأْيهمْ فاستدعوا شَرِيدًا وَقَالُوا لَهُ تقتل هَذَا الْأسود وتضبط الْبَلَد حَتَّى نكتب إِلَى المرتضى فيبعث إِلَيْنَا من يقوم بأمرنا فأجابهم إِلَى ذَلِك وَكَانَ ميله إِلَى الْمُوَحِّدين وهواه مَعَهم لكَونه صنيعتهم وَكَانَ الَّذِي مَشى فِي هَذِه الثورة وَتَوَلَّى كبرها المشرف ولد القَاضِي الْمَذْكُور وَابْن جشار وَأَخُوهُ وَابْن أبي طاط وَولده
فَلَمَّا كَانَت صَبِيحَة الثُّلَاثَاء الموفي عشْرين من شَوَّال سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة طلع الْأَشْيَاخ المذكورون إِلَى القصبة للسلام على السُّعُود على عَادَتهم فِي ذَلِك فَدَخَلُوا عَلَيْهِ بِمَجْلِس حكمه وهاجوه بِبَعْض المحاورات فَغَضب وانتهرهم فَوَثَبُوا بِهِ وَنَادَوْا بشعارهم وَكَانَ شريد الفرنجي وَاقِفًا فِي عسكره أَمَام القصبة قد وأطأهم على ذَلِك فاقتحم على السُّعُود فَقتله وَقتل مَعَه أَرْبَعِينَ من رِجَاله واحتز الْعَامَّة رَأسه ورفعوه على عَصا وطافوا بِهِ فِي أسواق الْبَلَد وسككها واقتحموا الْقصر فانتهبوه وَسبوا الْحرم ونصبوا النَّصْرَانِي لضبط الْبَلَد وبعثوا ببيعتهم إِلَى المرتضى صَاحب مراكش واتصل الْخَبَر بالأمير أبي بكر وَهُوَ منَازِل بِلَاد فازاز فأفرج عَنْهَا وَأخذ السّير إِلَى فاس فَأَنَاخَ عَلَيْهَا بعساكره وشمر لحصارها وَقطع الْمَادَّة عَنْهَا
أهل فاس طَعَام الضِّيَافَة على الْعَادة فَأمر السُّلْطَان بإدخاله إِلَى دَار الدبيبغ وَلما صلى الْعَصْر خرج على النَّاس بالمشور فَوقف لَهُم وَقدم الْوُفُود هداياهم على الْعَادة وَلما فرغ من ذَلِك كُله أَمر العبيد والودايا بِالدُّخُولِ إِلَى دَار الدبيبغ لأكل طَعَام الضِّيَافَة وَكَانَ قد أعد بهَا ألفا من المسخرين للقبض على أَعْيَان الودايا أفردهم فِي نَاحيَة فَلَمَّا دخلُوا وغلقت الْأَبْوَاب وَثبُوا عَلَيْهِم وجردوهم من السِّلَاح وكتفوهم وألقوهم على الأَرْض
وَلما طعم الْجَيْش وَسَائِر النَّاس أَمر السُّلْطَان الْخَيل بالركوب وَشن الغارات على حلَّة الودايا والمغافرة بلمطة فركبت الْخُيُول وَتَقَدَّمت إِلَيْهِم وَسَار السُّلْطَان فِي موكبه خَلفهم وَلما شَرق شارق فاسا الْجَدِيد رَمَاه الودايا من أبراجه بالكور فَلم تغن شَيْئا وَتقدم السُّلْطَان حَتَّى وقف بالموضع الْمَعْرُوف بدار الرخَاء فَلم يكن إِلَّا هنيئة حَتَّى أَقبلت العساكر بِالسَّبْيِ والأثاث والخيام وانتسفوا الْحلَّة نسفا وَلما جن اللَّيْل خرج من كَانَ بَقِي من أعيانهم بفاس الْجَدِيد وَتَفَرَّقُوا شذر مذر فَذهب بَعضهم إِلَى ضريح الشَّيْخ أبي الْعَبَّاس أَحْمد الشاوي وَبَعْضهمْ إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ اليوسي وَبَعْضهمْ إِلَى ضريح سَيِّدي أبي سرغين بصفرو وَغير ذَلِك وَبَقِي الضُّعَفَاء على الأسوار يطْلبُونَ الْأمان فعطفته عَلَيْهِم الرَّحِم ورق لَهُم فَأَمنَهُمْ وأخرجهم إِلَى فاس الْقَدِيم وأدال مِنْهُم بفاس الْجَدِيد بِأَلف كانون من العبيد فنزلوه وعمروه واقفر من الودايا بعد أَن كَانُوا أَهله مُدَّة طَوِيلَة كَمَا علمت
ثمَّ أَمر السُّلْطَان رَحمَه الله بأَرْبعَة من مساجين الودايا فسرحوا أحدهم الْقَائِد قدور بن الْخضر الشهير الذّكر وَأمرهمْ أَن يقفوا على إخْوَانهمْ المسجونين حَتَّى يعينوا أهل الْفساد من غَيرهم ويأتوه بزمامهم ويتحروا الصدْق فِي ذَلِك فعينوا لَهُ خمسين من عتاتهم أهل زيغ وَفَسَاد فَأمر بِأَن تضرب على أَرجُلهم الكبول ويقرن كل اثْنَيْنِ مِنْهُم فِي سلسلة ثمَّ بعث مِنْهُم إِلَى مراكش اثْنَان على الْجمل فسجنوا بهَا وطهرت الأَرْض من شيطنتهم ثمَّ
(فأتتك طالبة الْأمان لنَفسهَا ... لتنال بعض الطّيب من ثجاحها)
(لبتك إِذْ سَمِعت نداك وَأَقْبَلت ... مرهوبة تستن من إزعاجها)
(ونزعتها بالقهر من غصابها ... وَالسَّابِقُونَ رَضوا بِبَعْض خراجها)
وَاعْلَم أَن هَذِه الْأَخْبَار الَّتِي سردناها من أول هَذِه الدولة السعيدة إِلَى هُنَا تبعنا فِي جلها أَبَا عبد الله أكنسوس وَقد سَاقهَا رَحمَه الله مُجَرّدَة عَن التَّارِيخ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود بِالذَّاتِ من الْفَنّ وَنحن لما لم نعثر فِي الْوَقْت على مَا يُحَقّق لنا تواريخها رتبناها بِحَسب مَا أدّى إِلَيْهِ الْفِكر والروية وأثبتناها لِئَلَّا تذْهب فائدتها بِالْكُلِّيَّةِ وعَلى كل حَال فَهِيَ فِي حُدُود الْأَرْبَعين من مائَة التَّارِيخ وَالله أعلم
ولَايَة الْقَائِد أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن حمان الجراري على وَجدّة وأعمالها

قد قدمنَا أَن السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله كَانَ قد ولى ابْن عَمه سَيِّدي مُحَمَّد بن الطّيب على وَجدّة وَرجع عَنْهَا بِلَا طائل وَكَانَت ولَايَة هَذَا الثغر عِنْد السُّلْطَان من أهم الولايات وأخصها بمزيد الاعتناء لبعدها عَن دَار الْملك ومتاخمتها لمملكة التّرْك فَكَانَت ثغرا من الثغور ولكثرة قبائلها وَاخْتِلَاف آراء أَهلهَا وتعدد عصبياتهم فِي الْعَرَب والبربر ففكر السُّلْطَان رَحمَه الله فِيمَن يَكْفِيهِ هَذَا المهم ويسد لَهُ هَذَا المسد فَوَقع اخْتِيَاره على الْقَائِد الأنجد أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن حمان بن الْعَرَبِيّ الوديي الجراري فَرَمَاهَا بِهِ وَجعل أمرهَا إِلَيْهِ وعول فِي شَأْنهَا عَلَيْهِ وَكَانَ هَذَا الرجل نَسِيج وَحده وقريع دهره فِي جودة الرَّأْي وإدارة الْأُمُور على وَجههَا وإجرائها على مُقْتَضى صوابها ومحبة السُّلْطَان ونصحه فولاه عَلَيْهَا فِي أَوَائِل سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَقَامَ بأمرها أحسن قيام وَاسْتوْفى جباية أهل المداشر مِنْهَا والخيام ثمَّ حمله نصحه وَصدق خدمته على أَن يسْتَأْذن السُّلْطَان فِي أَن يكون يكاتبه بِجَمِيعِ مَا يحدث فِي تِلْكَ الْبِلَاد من الْأُمُور الدَّاخِلَة فِي الدولة

الصفحة 15