كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
الأجفان الَّتِي طرقها طيف الْإِتْلَاف وَأم حرم فنائها الفناء وَطَاف بِهِ بعد الألطاف فقد روع هَذَا الْخَبَر قلب الْإِسْلَام وَنَوع لَهُ الْحزن على اخْتِلَاف الإصباح والإظلام وَهَذِه الدَّار لَا يَخْلُو صفوها من كدر الْقدر وطالما انامت بالأمن أول اللَّيْل وخاطبت بالخطب فِي السحر وَلَكِن فِي بقائكم مَا يسلي عَن خطب العطب وَمَعَ سَلامَة نفسكم الْكَرِيمَة فَالْأَمْر هَين لِأَن الدّرّ يفدى بِالذَّهَب وَأما مَا رَأَيْتُمُوهُ من الصُّلْح فَرَأى عقده مبارك وَأمر مَا فِيهِ فارط عزم وَإِن كَانَ فيتدارك وَالْأَمر يَجِيء كَمَا يحب لَا كَمَا نحب والحروب يزورها نصرها تَارَة ويغب مَعَ الْيَوْم غَدا وَقد يرد الله الردى وَيُعِيد الظفر بالعدا وَأما عودكم إِلَى فاس المحروسة طلبا لإراحة من عنْدكُمْ من الْجنُود وتجهيزا لمن يصل من عنْدكُمْ إِلَى الْحجاز الشريف من الْوُفُود فَهَذَا أَمر ضَرُورِيّ التَّدْبِير سروري التثمير لِأَن النُّفُوس تمل وثير المهاد فَكيف مُلَازمَة صهوات الْجِيَاد وتسأم من مجالسة الشّرْب فَكيف بممارسة الْحَرْب وَتعرض عَن دوَام اللَّذَّة فَكيف بِمُبَاشَرَة المنايا الفذة وَهَذَا جبل طَارق الَّذِي فتح الله بِهِ عَلَيْكُم وسَاق هدي هديته إِلَيْكُم لَعَلَّه يكون سَببا إِلَى ارتجاع مَا شرد وحسما لهَذَا الطاغية الَّذِي مرد وردا لهَذَا النَّازِل الَّذِي كدرر ورد الصَّبْر لما ورد فعادة الألطاف بكم مَعْرُوفَة وعزماتكم إِلَى جِهَات الْجِهَاد مصروفة وَقد تفاءلنا لكم من هَذَا الْجَبَل بِأَنَّهُ طَارق خير من الرَّحْمَن يطْرق وجبل يعْصم من سهم يمر من قسي الْكفَّار ويمرق وَأما مَا منحتموه من الْخَيل الْعتاق والملابس الَّتِي تطلع بدور الْوُجُوه من مَشَارِق الأطواق وَالْأَمْوَال الَّتِي زكتْ عِنْد الله تَعَالَى ونمت على الْإِنْفَاق فعلى الله عز وَجل خلفهَا وَلكم فِي منَازِل الدُّنْيَا وَالْآخِرَة سرفها وشرفها وإليكم تساق هَدَايَا أثنيتها وتحفكم تحفها وَإِذا وصل وفدكم الْحَاج وأنار لَهُ بِوَجْه إقبالنا عَلَيْهِم ليلهم الداج وَكَانُوا مقيمين تَحت ظلّ إكرامنا وشمول إسعافنا لَهُم وإنعامنا يتخولون تحفا أَنْتُم سَببهَا ويتناولون طرفا فِي كؤوس الاعتناء بهم ينضد حببها وَإِذا كَانَ أَوَان الرحيل إِلَى الْحَج فسحنا لَهُم الطَّرِيق وسهلنا لَهُم الرفيق وبلغناهم بحول الله تَعَالَى مُنَاهُمْ من منى وسألهم مِمَّن إِذا
فَكتب أهل فاس إِلَى قواد البربر يستنصرونهم على الودايا ويستقدمونهم للنَّظَر والخوض مَعَهم فِيمَن يتَوَلَّى أَمر النَّاس فَقدم الْحسن بن حمو واعزيز المطيري كَبِير آيت أدراسن فِي وُجُوه قومه وَقدم الْحَاج مُحَمَّد بن الْغَازِي كَبِير زمور وَبني حكم فِي وُجُوه قومه فَاجْتمعُوا بِأَهْل فاس وتفاوضوا فِي أَمر الْبيعَة فَوَقع اختيارهم على الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد وَكَانَ ذَا سمت وانقباض وصهر السُّلْطَان على ابْنَته وَكَانَ يسكن بدرب ابْن زيان قرب الْمدرسَة العنانية فَكَانَ لَا يخرج إِلَّا من الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة يُصَلِّي بِالْمَدْرَسَةِ ثمَّ يعود إِلَى دَاره فاختاروه لذَلِك من غير اختبار وَلَا تمحيص ثمَّ قَالُوا إِن السُّلْطَان لَا بُد لَهُ من مَال وَرِجَال فتكفل ابْن واعزيز بِالرِّجَالِ وَقَالَ عندنَا من الْخَيل وَالرِّجَال مَا لن يغلب من قلَّة وتكفل الْحَاج الطَّالِب بن جلون بِالْمَالِ وأحال على جمَاعَة من التُّجَّار وَسَمَّاهُمْ وَذكر أَن السُّلْطَان لما عزم على السّفر إِلَى مراكش ودع عِنْدهم بواسطته مَالا لَهُ بَال وَلما تمّ لَهُم مَا أَرَادوا غدوا على الْمولى إِبْرَاهِيم بن يزِيد فأحضروه وشرطوا عَلَيْهِ شُرُوطًا مِنْهَا إِخْرَاج الودايا من فاس الْجَدِيد وَكَانُوا كلما شرطُوا عَلَيْهِ شرطا حرك لَهُم رَأسه أَي نعم ثمَّ بَايعُوهُ صَبِيحَة الرَّابِع وَالْعِشْرين من محرم سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف وَيُقَال إِنَّهُم لما خاطبوه أَولا امْتنع فَقَالُوا لَهُ إِن لم نُبَايِعك بَايعنَا رجلا من آل الْمولى إِدْرِيس رَضِي الله عَنهُ فخاف خُرُوج الْأَمر من بَيتهمْ وَأجَاب وَالله أعلم وَحضر هَذِه الْبيعَة الشريف سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ ابْن عَليّ الوزاني وَالشَّيْخ أَبُو عبد الله سَيِّدي مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الدرقاوي وَكَانَ ابْن الْغَازِي الزموري من أخص أَتْبَاعه وَهُوَ رَئِيس البربر فِي ذَلِك الْوَقْت وَعَلِيهِ وعَلى ابْن واعزيز كَانَت تَدور هَذِه الْأُمُور وحضرها أَيْضا أَبُو بكر مهاوش كَبِير آيت ومالو وَلما أحكموا أَمرهم كتبُوا إِلَى العبيد بمكناسة ليساعدوهم فامتنعوا إِلَّا أَن من كَانَ يبغض السُّلْطَان مِنْهُم وعدهم سرا ثمَّ كتبُوا إِلَى الودايا بِمثل مَا كتبُوا بِهِ إِلَى العبيد فَكَانُوا عَنْهَا أبعد فَبعث أهل فاس الشَّيْخ
سالف خدمتهم وَلَا نكشف عَنْهُم جِلْبَاب حرمتهم بحول الله وقوته وَالسَّلَام صدر بِهِ أمرنَا المعتز بِاللَّه فِي تَاسِع ربيع الثَّانِي عَام ثَلَاثَة وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَلما قضى السُّلْطَان أعزه الله أربه من ثغر الجديدة نَهَضَ إِلَى آزمور فَتَلقاهُ أَهلهَا بالفرح وَالسُّرُور والبهجة والحبور فهش لَهُم وقابلهم بِمَا يُنَاسب ودعا لَهُم بِخَير وزار ضريح الشَّيْخ أبي شُعَيْب وَأبي عبد الله مُحَمَّد واعدود رَضِي الله عَنْهُمَا وَقدم لضريحهما ذَبَائِح وَطَاف بأسوار الْبَلَد وأبراجه وَأمر بتحصين برج هُنَالك كَانَ مُقَابلا للمرسى ثمَّ خرج من آزمور بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ فَانْتهى إِلَى مَدِينَة آنفى فَدَخلَهَا فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي الْمَذْكُور وعزل عَنْهَا الْقَائِد أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري وَولى مَكَانَهُ الْحَاج عبد الله بن قَاسم حِصَار السلاوي ثمَّ كتب إِلَى أبي عبد الله الجراري الْمَذْكُور بولايته على الجديدة وأعمالها وَنَصّ كِتَابه إِلَيْهِ خديمنا الأرضى الطَّالِب مُحَمَّد بن إِدْرِيس الجراري وفقك الله وَسَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته وَبعد فَإنَّا أعفيناك من ولَايَة الدَّار الْبَيْضَاء ووليناك على الجديدة وَلم نعزلك عَنْهَا سخطا لسيرتك وَلَا هضما لجَانب خدمتك وَإِنَّمَا اقْتَضَت الْمصلحَة ذَلِك تَقْدِيمًا للأهم فالأهم وَأَنت منا وإلينا ودارك دَار الْخدمَة وَالصَّلَاح فَلَا نسلمكم وَلَا نفوتكم وَلَا نهضم لكم جانبا وَالسَّلَام فِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي عَام ثَلَاثَة وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اهـ
وَاعْلَم أَن هَذَا الْعَامِل من أمثل عُمَّال السُّلْطَان نَصره الله وأعقلهم وأرجحهم وأنصحهم قد اسْتَعْملهُ الْمُلُوك الثَّلَاثَة الْمولى عبد الرَّحْمَن وَابْنه سَيِّدي مُحَمَّد وَابْنه الْمولى الْحسن رَضِي الله عَنْهُم فظهرت كِفَايَته ونصيحته وحمدت ولَايَته وَسيرَته وَهُوَ الْآن بِهَذَا الْحَال حفظنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين آمين وَلما احتل السُّلْطَان أعزه الله بِالدَّار الْبَيْضَاء طَاف فِي أبراجها وَأمر الطبجية بِنصب الْأَغْرَاض الْمُسَمَّاة بالقريبيات فِي الْبَحْر ثمَّ أَمر برميها وَهُوَ حَاضر وَرُبمَا بَاشر مَعَهم ثمَّ اجتاز بعد الْفَرَاغ على بَاب المرسى وَمحل وضع السّلْعَة للتجار بهَا فَوقف عَلَيْهِ وتأمله كَمَا فعل بثغر الجديدة ووعد
الصفحة 150