كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
أبي زيد أَوْلَاد الْقوس فأنزلهم السُّلْطَان أَبُو الْحسن وأجمل لقاءهم مغضبا عَمَّا صدر من غوغاتهم ثمَّ رفع إِلَيْهِ عبد الْوَاحِد بن اللحياني من أَوْلَاد الْمُلُوك الحفصيين أَنهم بعثوا إِلَيْهِ مَعَ بعض حَاشِيَته يطْلبُونَ مِنْهُ الْخُرُوج مَعَهم لينصبوه لِلْأَمْرِ بإفريقية وَأَنه خشِي على نَفسه بادرة السُّلْطَان فتبرأ إِلَيْهِ من ذَلِك فَقَامَتْ قِيَامَة السُّلْطَان أبي الْحسن عِنْد سَمَاعه ذَلِك فأحضرهم وأحضر الحفصي مَعَهم وَقَررهُ بِمَا دَار بَينه وَبينهمْ فَبُهِتُوا وأنكروا فوبخهم وَأمر بهم فسحبوا إِلَى السجْن ثمَّ فتح ديوَان الْعَطاء وَعرض الْجند لغزوهم وعسكر بسيجوم من ظَاهر تونس وَذَلِكَ بعد قَضَاء نسك الْفطر من سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة
واتصل الْخَبَر بأولاد أبي اللَّيْل وَأَوْلَاد الْقوس باعتقال وفدهم وَجمع السُّلْطَان لغزوهم فضاقت عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ وَانْطَلَقُوا فِي إحيائهم يحزبون الْأَحْزَاب ويستشيرون الثوار وعطفوا على أعدائهم من أَوْلَاد مهلهل فوصلوهم بعد القطيعة وَكَانُوا بعد مقتل سلطانهم عمر بن أبي بكر قد لَحِقُوا بالقفر خوفًا من أبي الْحسن لأَنهم كَانُوا شيعَة لعمر الْمَذْكُور فَلَمَّا وَقع بَين أبي الْحسن وَبَين أَوْلَاد أبي اللَّيْل مَا وَقع ركب قُتَيْبَة بن حَمْزَة إِلَيْهِم وَمَعَهُ أمه وَنسَاء أَوْلَادهَا فتطارحوا عَلَيْهِم وَرَغبُوا إِلَيْهِم فِي الإجتماع مَعَهم على الْخُرُوج على السُّلْطَان ومنابذته فَكَانَ أَوْلَاد مهلهل إِلَيْهَا مُسْرِعين فارتحلوا مَعَهم وتوافت أَحيَاء سليم من بني كَعْب وَبني حَكِيم بتوزر من بِلَاد الجريد فتذامروا وتصافوا وأهدروا الدِّمَاء بَينهم وتبايعوا على الْمَوْت وصاروا نفسا وَاحِدَة على تبَاين أغراضهم وَفَسَاد ذَات بَينهم والتمسوا من أعياص الْملك من ينصبونه لِلْأَمْرِ فدلهم بعض سماسرة الْفِتَن على رجل من ببني عبد الْمُؤمن وَهُوَ أَحْمد بن عُثْمَان بن أبي دبوس آخر مُلُوك بني عبد الْمُؤمن وَكَانَ يحترف بالخياطة فِي توزر بعد مَا طوحت بِهِ الطوائح فَانْطَلقُوا إِلَيْهِ وجاؤوا بِهِ ونصبوه لِلْأَمْرِ وجمعوا لَهُ شَيْئا من الفساطيط وَالْخَيْل والآلات وَالْكِسْوَة وَأَقَامُوا لَهُ رسم السُّلْطَان وعسكروا عَلَيْهِ بقياطينهم وحللهم وتحالفوا على نَصره
وَلما قضى السُّلْطَان ابو الْحسن نسك عيد الْأَضْحَى من السّنة الْمَذْكُورَة
جَهله وغاض خَيره وفاض شَره وَأمر السُّلْطَان متداع مختل والفتنة قَائِمَة على سَاق كَمَا رَأَيْت فَلهَذَا قُلْنَا مَا كَانَ من حق السُّلْطَان أَن يبْعَث بذلك الْكتاب الموجه بمقصدين الْمُحْتَمل احْتِمَالَيْنِ وَلَكِن قَضَاء الله غَالب
وَلما افْتتح السُّلْطَان رَحمَه الله فاسا وَصفا لَهُ أمرهَا عزم على النهوض إِلَى تطاوين فاستخلف على فاس وأعمالها ابْن أَخِيه الْفَارِس الأنجد السّري الأسعد الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام لعدالته وكفايته وَحسن سياسته وَأخذ مَعَه الْمولى السعيد بن يزِيد وَخرج فِي جَيش الودايا وَالْعَبِيد وقبائل الْحَوْز أَوَائِل شعْبَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَألف فَجعل طَرِيقه على بِلَاد سُفْيَان وَلما وصل إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بِالْحجرِ الْوَاقِف بَين نهري سبو وورغة قدم عَلَيْهِ هُنَالك الْقَائِد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن العامري اليحياوي فِي قومه بني حسن والقائد أَبُو عبد الله مُحَمَّد المعتوجي السفياني وقاسم بن الْخضر فِي قومهما سُفْيَان وَبني مَالك وَقدم عَلَيْهِ هُنَالك أَوْلَاد الشَّيْخ أبي عبد الله سَيِّدي الْعَرَبِيّ الدرقاوي صبية صغَارًا يشفعون فِي أَبِيهِم ليسرحه لَهُم فوصلهم وكساهم وَقَالَ لَهُم وَالله مَا سجنته وَلَا أمرت بسجنه وَلَكِن اتركوه فسيسرحه الله الَّذِي سجنه فَكَانَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ بَقِي فِي السجْن حَتَّى توفّي السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان وبويع الْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فَافْتتحَ عمله بتسريحه وَلما نزل السُّلْطَان رَحمَه بمشرع مسيعيدة من نهر سبو وَفد عَلَيْهِ أهل تطاوين تَائِبين وَمَعَهُمْ قائدهم الْعَرَبِيّ بن يُوسُف المسلماني وَكَانَ النَّاس يظنون أَنه ينكل بِهِ وبمن قَامَ مَعَه فِي الْفِتْنَة فَلم يفل لَهُم إِلَّا خيرا حَتَّى لقد قَالَ لَهُ ابْن يُوسُف يَا مَوْلَانَا إِن أهل تطاوين لم يَفْعَلُوا شَيْئا وَإِنِّي أَنا الَّذِي فعلت يُرِيد أَن يبرئهم ويفديهم بِنَفسِهِ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان رَحمَه الله مَا عنْدك مَا تفعل أَنْت وَلَا هم وَإِنَّمَا الْفَاعِل هُوَ الله تَعَالَى وصفح عَنْهُم وَأحسن إِلَيْهِم وَلما صفا أَمر تطاوين وَلم يبْق بِبِلَاد الغرب مُنَازع انْقَلب السُّلْطَان رَاجعا إِلَى الْحَوْز وجد السّير إِلَى مراكش فَدَخلَهَا فِي رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة
الَّتِي ذكرنَا وقصدوها على عمياء وَقد ارْتَفع دُخان البارود وغبار الْخَيل فتهافتوا فِيهَا تهافت الْفراش فِي النَّار لَا يعلم اللَّاحِق مَا وَقع بالسابق إِلَى أَن امْتَلَأت من الْخَيل وَالرِّجَال والأثاث وَمَا كَادَت وَكَانَ ذَلِك قَضَاء من الله وتمحيصا مِنْهُ فَهَلَك من النَّاس وَالْخَيْل مَا لَا يُحْصى وَبقيت أشلاؤهم ناشبة فِي تِلْكَ الأوعار تلوح مثل المجزرة وترجل السُّلْطَان أعزه الله عَن فرسه حَتَّى خلص من تِلْكَ الشقوق ثمَّ ركب وَاجْتمعَ النَّاس عَلَيْهِ وراجعوا بصائرهم بعد الكائنة ثمَّ انشمر غياثة بعْدهَا إِلَى رُؤُوس الْجبَال وَتركُوا المداشر والجنات فاقتحهما السُّلْطَان بعد يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة عَلَيْهِم فَلم يقف أَمَامه مِنْهُم أحد فعاث فِيهَا وحرقها وَجعلهَا حصيدا كَأَن لم تغن بالْأَمْس وَكتب أيده الله بذلك إِلَى الْآفَاق وَذكر فِي كِتَابه أَن الْخَيل وَالرُّمَاة قد انتسفوا بِلَادهمْ انتسافا ودوخوها أماما وخلفا حَتَّى أشرفوا على بِلَاد جيرانهم وأناخوا فِيهَا بكلكلهم وجرانهم ثمَّ توجه السُّلْطَان نَصره الله إِلَى نواحي وَجدّة فَانْتهى إِلَيْهَا أَوَائِل شعْبَان من السّنة فَتَلقاهُ بَنو يزناسن خاضعين تَائِبين فَعَفَا عَنْهُم لكَوْنهم ثغرا من ثغور الْمُسلمين وعصبة تدخر لنصرة الدّين إِلَّا أَنه عزل عَنْهُم ولد البشير وَبعث بِهِ مسجونا إِلَى فاس وَولى عَلَيْهِم قوادا مِنْهُم من أهل الحزم والنجدة ووظف عَلَيْهِم قدرا صَالحا من المَال فشرعوا فِي دَفعه فِي الْحَال والتزموا رد مَا تعلق بذممهم من الْمَظَالِم وصلحت أَحْوَالهم واستقام أَمر تِلْكَ النَّاحِيَة وَلما قضى السُّلْطَان أعزه الله غَرَضه مِنْهَا قفل رَاجعا إِلَى فاس فَدَخلَهَا لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان الْمُعظم وَكتب بذلك إِلَى الْأَمْصَار يَقُول هَذَا وَقد كتبنَا لكم هَذَا بعد القفول من حركتنا السعيدة وحلولنا بحضرتنا الْعَالِيَة بِاللَّه بفاس بالفتوحات الجديدة والإنعامات المزيدة حُلُول عز وظفر وإسعاد وَنصر من لَدنه لم يكن بحيلة وَلَا استعداد وَذَلِكَ بعد الْفَرَاغ من تَرْتِيب تِلْكَ الْقَبَائِل وتطهيرها مِمَّا تعلق بهَا من الرذائل ونلنا بِفضل الله فِي هَذِه الْحَرَكَة من أثر الْخَيْر واليمن وَالْبركَة مَا أثلج الصُّدُور وحمدنا غبه فِي الْوُرُود والصدور وَتَركنَا أهل تِلْكَ النواحي وساكني جبالها والضواحي على أحسن مَا يكون صلاحا واطمئنانا وسلوكا للجادة المخزنية بِالْقَلْبِ والقالب سرا
الصفحة 159