كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

فَكَانَ فِي قلبه من الدولة المرينية مرض وَكَانَ الْعَرَب أَيَّام عزمهم على الْخُرُوج يفاوضونه بِذَات صُدُورهمْ فَلَمَّا حصلوا على البغية من الظُّهُور على السُّلْطَان وحصاره بالقيروان احْتَالُوا فِي أَمر ابْن تافراجين فبعثوا إِلَى السُّلْطَان يطْلبُونَ مِنْهُ بَعثه إِلَيْهِم ليفاوضوه فِي الرُّجُوع إِلَى الطَّاعَة والانخراط فِي سلك الْجَمَاعَة فَأذن لَهُ فَخرج إِلَيْهِم وَوصل يَده بيدهم وَلم يرجع الى السُّلْطَان أبي الْحسن فقلدوه حجابة سلطانهم ابْن أبي دبوس ثمَّ سرحوه إِلَى حِصَار من بالقصبة من بني مرين وطمعوا فِي الإستيلاء عَلَيْهَا وفض ختامها فَسَار ابْن تافراجين إِلَيْهَا وانضم إِلَيْهِ أَشْيَاخ الْمُوَحِّدين فِي زعانف من الغوغاء وَأَحَاطُوا بالقصبة ثمَّ لحق بهم ابْن أبي دبوس فعاودوها الْقِتَال ونصبوا عَلَيْهَا المجانيق فامتنعت عَلَيْهِم وَلم يغنوا شَيْئا وَابْن تافرجين فِي أثْنَاء ذَلِك يحاول الْفِرَار بِنَفسِهِ لاضطراب الْأُمُور واختلال الرسوم إِلَى أَن بلغه خلوص السُّلْطَان أبي الْحسن من القيروان إِلَى سوسة
وَكَانَ من خَبره أَن الْعَرَب بعد حصارهم إِيَّاه بالقيروان اخْتلفت كلمتهم لَدَيْهِ وَكَانَ قد دخل أَوْلَاد مهلهل فِي الإفراج عَنهُ وَاشْترط لَهُم على ذَلِك أَمْوَالًا وَنذر بَنو أبي اللَّيْل بذلك فاضربت كلمتهم وَدخل عَلَيْهِ قُتَيْبَة بن حَمْزَة مِنْهُم بمكانه من القيروان زعيما بِالطَّاعَةِ فتقبله وَأطلق أَخَوَيْهِ خَالِدا وَأحمد وَمَعَ ذَلِك فَلم يطمئن إِلَيْهِم ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ مُحَمَّد بن طَالب من أَوْلَاد مهلهل وَخَلِيفَة بن أبي زيد وَأَبُو الهول بن يَعْقُوب من أَوْلَاد الْقوس وَعَاهَدُوهُ على الإفراج عَنهُ وَالْقِيَام مَعَه حَتَّى يصل إِلَى مأمنه فَخرج مَعَهم لَيْلًا على التعبية وذؤبان الْعَرَب تطَأ أذياله وضباعها تنوشه إِلَى أَن اسْتَقر بسوسة وَأمن على نَفسه وَقد أَتَى النهب على جلّ مَا كَانَ مَعَه وَلما سمع ابْن تافراجين وَهُوَ محاصر للقصبة بوصول السُّلْطَان إِلَى سوسة تسلل من أَصْحَابه وَركب الْبَحْر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَأَصْبحُوا وَقد فقدوه فاضطرب أَمرهم وارتاب سلطانهم ابْن أبي دبوس لما علم بِخَبَرِهِ فانفض جمعهم عَن القصبة وأفرجوا عَنْهَا وَخرج بَنو مرين فملكوا الْبَلَد وخربوا منَازِل الْحَاشِيَة بهَا ثمَّ ركب السُّلْطَان أَبُو الْحسن من سوسة الْبَحْر فاحتل بتونس فِي ربيع الآخر سنة تسع وَأَرْبَعين
الْقَائِد وَدخل على السُّلْطَان فشرح لَهُ حَال الْمهْدي وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من التهور والسمو بِنَفسِهِ إِلَى الْمحل الَّذِي لَا يبلغهُ وَأَنه لَا يَسْتَقِيم أَمر المخزن بِتِلْكَ الْقَبِيلَة مَعَه وَلم يزل بِهِ حَتَّى أعطَاهُ السُّلْطَان مِائَتَيْنِ من الْخَيل أغار بهَا على الزاوية فانتهبوها على حِين غَفلَة من أَهلهَا وجلهم غَائِب فِي أَعماله فتسامعوا بِأَن الْخَيل قد عاثت فِي دِيَارهمْ وجاؤوا على الصعب والذلول وأوقعوا بخيل المخزن واستلبوهم من خيلهم وسلاحهم وعادوا إِلَى مراكش راجلين فَعظم ذَلِك على السُّلْطَان واغتاظ وَاتفقَ أَن كَانَ مَعَ السُّلْطَان عَامل مراكش أَبُو حَفْص عمر بن أبي سِتَّة وعامل الرحامنة الْقَائِد قَاسم الرحماني وَكِلَاهُمَا عَدو للشراردة لَا سِيمَا الرحماني فشنعوا فِي ذَلِك بِمحضر السُّلْطَان وأسدوا وألحموا فِي غَزْو الشراردة وتأديبهم حَتَّى لَا يعودوا لمثلهَا وَفِي أثْنَاء ذَلِك نَدم الشراردة على مَا كَانَ مِنْهُم وبعثوا إِلَى السُّلْطَان بالشفاعات وذبحوا عَلَيْهِ وعَلى صلحاء مراكش فَلم يقبل مِنْهُم وَيُقَال إِن ذَلِك لم يكن يبلغ السُّلْطَان لِأَن النَّقْض والإبرام إِنَّمَا كَانَ لعمر بن أبي سِتَّة وقاسم الرحماني وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله كالمغلوب على أمره مَعَهُمَا فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى بعث إِلَى قبائل الْحَوْز يستنفرهم لغزو الشراردة فَاجْتمعُوا عَلَيْهِ وَكَانَ مَعَه جَيش الودايا وكبارهم مثل الطَّاهِر بن مَسْعُود الحساني والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر وَغَيرهمَا وَمَعَهُ الْقَائِد مُحَمَّد بن العامري فِي بني حسن وَغَيرهم من قبائل الغرب
وَلما أجمع السُّلْطَان الْخُرُوج إِلَيْهِم قدم أَمَامه قاسما الرحماني إِذْ كَانَ قد تكفل لَهُ بِأَن يَكْفِيهِ أَمر الشراردة وَحده فَكَانَ متسرعا إِلَيْهِم قبل كل أحد فرابط بِعَين دادة ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا والوسائط تَتَرَدَّد بَين السُّلْطَان وَبَين الشراردة وكادت كلمتهم تخْتَلف إِذْ قَامَ فيهم رجل مرابط اسْمه الحبيب من أَوْلَاد سَيِّدي أَحْمد الزاوية وَبعث نَحْو الْأَرْبَعين من الشراردة إِلَى السُّلْطَان سعيا فِي الصُّلْح فَأَشَارَ الرحماني وَابْن أبي سِتَّة فِيمَا قيل على السُّلْطَان بِالْقَبْضِ
الْقَضَاء برباط الْفَتْح أَكثر من عشْرين سنة ثمَّ تخلى عَنهُ من غير عزل وَدخل دَاره فَلم يخرج بعد فَاحْتمل السُّلْطَان وَالنَّاس ذَلِك واعتقدوه وَاسْتمرّ حَاله على ذَلِك إِلَى أَن توفّي فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور رحمنا الله وإياه وَالْمُسْلِمين
وَفِي سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من محرم مِنْهَا توفّي الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب شَاعِر الْعَصْر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد أكنسوس المراكشي وَدفن قرب ضريح الإِمَام أبي الْقَاسِم السُّهيْلي خَارج بَاب الرب من مراكش وَحضر جنَازَته الجم الْغَفِير من النَّاس وَهُوَ صَاحب كتاب الْجَيْش رَحمَه الله
وَفِي صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ السَّابِع عشر من ربيع الأول من السّنة الْمَذْكُورَة ولد لنا ولد سميناه مُحَمَّدًا الْعَرَبِيّ وَكَانَ من عَجِيب صنع الله أَنه ولد مختونا وَلذَا ذَكرْنَاهُ هُنَا وَهُوَ الْآن حَيّ أصلحه الله وأنبته نباتا حسنا وَجعله من عباد الله الصَّالِحين وَمن الْعلمَاء العاملين آمين وَفِي جُمَادَى الأولى من السّنة أَخذ السُّلْطَان أعزه الله فِي الاستعداد بالحضرة الفاسية للحركة اسْتِعْدَادًا لم يتَقَدَّم لَهُ مثله حَتَّى أَنه كتب إِلَى أَخِيه وخليفته بمراكش الْمولى عُثْمَان بن مُحَمَّد أَن يُوَجه إِلَيْهِ من الْعدة الرومية وَهِي مكاحل مركبة فِيهَا توافلها مَا قدرهَا ألف وسِتمِائَة وَعِشْرُونَ مكحلة تخرج أبخاشها بالحبة الرومية وَأَن يُوَجه إِلَيْهِ أَرْبَعمِائَة ألف وَعشرَة آلَاف من الْحبَّة الْمَذْكُورَة وَعشرَة قناطير من البارود وَمِائَة قِنْطَار من ملحه ومدفعين وَكتب أعزه الله إِلَى أُمَنَاء الصائر بِأَن يبعثوا إِلَيْهِ بثلاثمائة وَسِتِّينَ سرجا وسِتمِائَة كسْوَة من الملف للعسكر وَخَمْسَة عشر ألفا من الْبلْغَة وَمثلهَا من النعالة وَبعث أعزه الله عَمه الْمولى الْأمين بن عبد الرَّحْمَن إِلَى رِبَاط الْفَتْح لجمع عَسَاكِر الثغور وحشد قبائل دكالة وتامسنا والغرب وَبني حسن وَغَيرهم وَوجه أَخَاهُ الْمولى الْحسن الصَّغِير لحشد قبائل الدَّيْر والجيش المتفرق بهَا ثمَّ كَانَ خُرُوج السُّلْطَان من فاس إِلَى مكناسة أَوَاخِر الشَّهْر الْمَذْكُور وَلما سَمِعت قبائل البربر بِخُرُوجِهِ ارتابت وحذرت وظنت كل قَبيلَة أَنَّهَا الْمَقْصُودَة ففرت مجاط وَبَنُو مطير إِلَى رُؤُوس الْجبَال

الصفحة 161