كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

الحفصيين وَلِأَن الصبغة الحفصية كَانَت قد رسخت فِي نُفُوسهم جيلا بعد جيل فصعب عَلَيْهِم نَزعهَا
(نقل فُؤَادك حَيْثُ شِئْت من الْهوى ... مَا الْحبّ إِلَّا للحبيب الأول)
(كم منزل فِي الأَرْض يألفه الْفَتى ... وحنينه أبدا لأوّل منزل)
فأشرأبوا إِلَى الثورة على المرينيين لما سمعُوا بنكبة القيروان وَاتفقَ أَن قدم قسنطينة ركب من أهل الْمغرب قَاصِدين إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن وَكَانَ فيهم عُمَّال الجباية قدمُوا بجبايتهم عِنْد راس الْحول كَمَا جرت بِهِ عَادَتهم فِي ذَلِك وَمَعَهُمْ ابْن صَغِير للسُّلْطَان اسْمه عبد الله وَفِيهِمْ وَفد من رُؤَسَاء الفرنج بَعثهمْ طاغيتهم بِقصد التهنئة بِفَتْح إفريقية وَمَعَهُمْ تاشفين ابْن السُّلْطَان الَّذِي أسر يَوْم طريف أطلقهُ الطاغية بعد أَن أَصَابَهُ خبال فِي عقله وَأرْسل مَعَه بهدية نفيسة وَفِيهِمْ وَفد من أهل مَالِي بَعثهمْ السُّلْطَان منسا سُلَيْمَان بِقصد التهنئة أَيْضا فتوافت هَؤُلَاءِ الْوُفُود بقسنطينة وَقد طم عباب الْفِتْنَة على إفريقية فَأَرَادَ غوغاؤها وانتهاب مَا مَعَهم ثمَّ تخلصوا مِنْهُم فِي خبر طَوِيل
وَفِي أثْنَاء ذَلِك ثار الْفضل بن السُّلْطَان أبي بكر صَاحب بونة فراسله أهل قسنطينة فِي الْقدوم عَلَيْهِم وَالْقِيَام بأمرهم فَقَدمهَا وَجَرت خطوب واتصل بِأَهْل بجاية مَا فعله أهل قسنطينة فتبعوهم على رَأْيهمْ من الانتقاض ووثبوا على من كَانَ عِنْدهم من حامية بني مرين فاستلبوهم وأخرجوهم عُرَاة واستدعوا الْفضل بن أبي بكر من قسنطينة فبادر إِلَيْهِم وَاسْتولى على بجاية واستتب أمره بهَا وَأعَاد ألقاب الْخلَافَة وبينما هُوَ يحدث نَفسه بغزو تونس ثار عَلَيْهِ أَبنَاء أَخِيه أبي عبد الله بن أبي بكر فانتزعوا مِنْهُ بجاية وردوه إِلَى عمله الأول وانتقض على السُّلْطَان أبي الْحسن أَيْضا سَائِر زناتة من بني عبد الواد ومغراوة وَبني توجين وَبَايع بَنو عبد الواد لعُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان وَسَارُوا إِلَى تلمسان فاستجدوا بهَا ملك سلفهم فِي أَخْبَار طَوِيلَة
وَجَرت هَذِه الخطوب وَالسُّلْطَان أَبُو الْحسن مُقيم بتونس تغاديه الْعَرَب
بِيَوْم أَو نَحوه عدا الرحامنة على مُحَمَّد بن أبي سِتَّة فَقَتَلُوهُ بِسَبَب أَن الشراردة كَانُوا قد أسروه ثمَّ استحيوه وَاتَّخذُوا عِنْده عهدا ويدا بِأَنَّهُ إِذا أفضت إِلَيْهِ ولَايَة مراكش بعد أَخِيه عمر الْمَقْتُول يحسن فِي إدارة أَمرهم عِنْد السُّلْطَان فَسمع الرحامنة بذلك فَقَتَلُوهُ
قَالَ صَاحب الْجَيْش لما عزم السُّلْطَان على الْخُرُوج إِلَى زَاوِيَة الشرادي بَعَثَنِي قبل ذَلِك بِثَلَاث إِلَى السوس فِي شَأْن ابْن أَخِيه الْمولى بناصر بن عبد الرَّحْمَن وَكَانَ عَاملا عَلَيْهَا فكثرت الشكايات بِهِ إِلَى السُّلْطَان فَبَعَثَنِي فِي شَأْنه فَلَمَّا جِئْت تارودانت تربصت قَلِيلا فَلم يفجأنا إِلَّا خبر الْهَزِيمَة على السُّلْطَان بالروايات الْمُخْتَلفَة فَقَائِل يَقُول إِنَّه قد قتل وَآخر يَقُول إِنَّه قد مَاتَ حتف أَنفه وَآخر يَقُول لَا بَأْس عَلَيْهِ ثمَّ ورد علينا كِتَابَانِ من عِنْد السُّلْطَان أَحدهمَا بِخَط الْكَاتِب مطبوعا وَالْآخر بِخَط يَده تَحْقِيقا لسلامته يَقُول فِيهِ إِن هَذِه الْحَرَكَة مَا وَقعت إِلَّا لهلاك الظلمَة والملبسين علينا المظهرين للمحبة لنا وهم فِي الْبَاطِن أعدى الأعادي مثل قَاسم الرحماني وَفُلَان وَفُلَان وَأما أَوْلَاد أبي سِتَّة فقد قتل زُرَارَة عمر على رَائِحَة الرحامنة وَقتل الرحامنة مُحَمَّدًا على رَائِحَة أهل السوس والشريف سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الْجَلِيل الوزاني أَصَابَته رصاصة رِعَايَة رَحمَه الله عَلَيْهِ وَالْحَاصِل هان علينا كسر الخابية بِمَوْت الفار وَقد أَحْسَنت فِي التَّرَبُّص فاترك الْأَمر على طيته واصحب مَعَك أَشْيَاخ السوس وعدهم منا بِالْإِحْسَانِ ومساعدتهم على مَا يطلبونه منا وَالسَّلَام اه
وَلما دخل السُّلْطَان مراكش رَاجع الْقَوْم الَّذين انْهَزمُوا عَنهُ بصائرهم وَأَقْبلُوا إِلَيْهِ خاضعين تَائِبين وعَلى أبوابه فِي الْعَفو راغبين فَمَا وَسعه إِلَّا الْإِعْرَاض عَن أفعالهم الذميمة وطاعتهم السقيمة وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه ثمَّ أَمرهم بالتهيىء لغزو برابرة الغرب فتوجهوا إِلَى بِلَادهمْ ليأتوا بحصصهم إِلَى عيد المولد الْكَرِيم فانقضى أَجله رَحمَه الله
كليا بِحَيْثُ ذهب نوره واختفى شخصه حَتَّى لم ير مِنْهُ شَيْء وَبَقِي كَذَلِك نَحْو ساعتين ثمَّ أَخذ فِي التجلي شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن عَاد إِلَى امتلائه وَفِي هَذِه الْمدَّة قلت فلوس النّحاس بمراكش وأعمالها حَتَّى كَادَت تنعدم وَذَلِكَ بِسَبَب غلاء الريال الإفرنجي بمراكش ورخصه بفاس فَكَانَ صرفه بمراكش يَوْمئِذٍ بِثَلَاث وَسِتِّينَ أُوقِيَّة وَصَرفه بفاس بِثَلَاث وَخمسين أُوقِيَّة فَصَارَ التُّجَّار يجلبون فلوس النّحاس من مراكش إِلَى فاس ويصرفونها بالريال فيربحون فِي كل ريال نَحْو مِثْقَال وتمالؤوا على ذَلِك وتوفرت دواعيهم عَلَيْهِ حَتَّى قلت الْفُلُوس بمراكش وتقاعد النَّاس عَلَيْهَا لما فِيهَا من الرِّبْح وتعطل معاش الضُّعَفَاء بذلك وَلحق النَّاس ضَرَر كثير فَكَانَ الرجل يطوف بالبسيطة والريال فِي الْأَسْوَاق فَلَا يجد من يصرفهُ لَهُ وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ أَن يَشْتَرِي من ضروريات معاشه مَا قِيمَته أقل من بسيطة واتصل الْخَبَر بالسلطان أعزه الله فَكتب فِي الْآفَاق يَأْمر النَّاس برد صرف الريال إِلَى الثَّلَاثَة مَثَاقِيل وَربع مِثْقَال فامتثل النَّاس ذَلِك وَنُودِيَ بِهِ فِي الْأَسْوَاق فانعكس الْحَال على التُّجَّار وتقاعدوا على الريال والبسيطة وفاضت الْفُلُوس فِي الْأَسْوَاق حَتَّى صَارَت مُعَاملَة النَّاس لَيست إِلَّا بهَا وَحصل للتجار من الضَّرَر فِي رخص الريال مَا كَانَ حصل للضعفاء فِي قلَّة الْفُلُوس لِأَن التُّجَّار حِينَئِذٍ صَارُوا يبيعون سلعهم الَّتِي بذلوا فِيهَا الريال الغالي بالقراريط النحاسية الَّتِي صَار صرف الريال فِيهَا على النّصْف فَأمْسك النَّاس سلعهم وامتنعوا من بيعهَا وتعطلت الْمرَافِق أَو كَادَت فَكتب السُّلْطَان ثَانِيًا برد أسعار السّلع والأقوات على النّصْف مِمَّا كَانَت حَتَّى تحصل الْمُسَاوَاة بَين الْأَثْمَان والمثمنات فَنَشَأَ بذلك هرج كَبِير وضرر للنَّاس فِي معاشهم وأبى الله إِلَّا أَن تعود السِّكَّة إِلَى حالتها الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا وَقد بَينا الْعلَّة فِي ذَلِك قبل هَذَا وَأَن السكَك والأسعار لَا تزَال فِي الزِّيَادَة مَا دَامَت المخالطة مَعَ الفرنج تكْثر بكثرتها وتقل بقلتها
وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث رَمَضَان من السّنة توفّي عَالم الْمغرب السَّيِّد الْمهْدي بن الطَّالِب ابْن سَوْدَة الفاسي كَانَ عَلامَة متقنا فصيحا عَارِفًا بصناعة الدَّرْس حسن الْإِيرَاد فِيهِ بِحَيْثُ فاق أهل زَمَانه يُقَال إِن لَهُ تآليف لَكِن لم

الصفحة 163