كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

يرزيكن القادم عَلَيْهِ ثمَّ لفارس بن مَيْمُون بن وردار وَجعله رديفا لَهُ وَرفع مَكَان ابْن جرار عَلَيْهِم كلهم واختص لمناجاته كَاتبه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي عَمْرو ثمَّ فتح الدِّيوَان وَجعل يستركب كل من تساقط إِلَيْهِ من قبل أَبِيه ويخلع عَلَيْهِم وارتحل إِلَى الْمغرب وَعقد على تلمسان لِابْنِ جرار وأنزله بِالْقصرِ الْقَدِيم مِنْهَا فاستمر بهَا واستبد إِلَى أَن قدم عَلَيْهِ بَنو عبد الواد مُجْتَمعين على سلطانهم عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن فَقَتَلُوهُ غرقا فِي خبر طَوِيل وَلما انْتهى الْأَمِير أَبُو عنان إِلَى وَادي الزَّيْتُون وشى إِلَيْهِ بالوزير الْحسن بن سُلَيْمَان وَأَنه عازم على الفتك بِهِ بتازا تقربا إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن ووفاء بِطَاعَتِهِ وَأَنه قد دَاخل فِي ذَلِك حافده مَنْصُور بن أبي مَالك الثائر بفاس وأطلعه هَذَا الواشي على كتاب الْوَزير فِي ذَلِك فَلَمَّا قَرَأَهُ تقبض عَلَيْهِ ثمَّ قَتله خنقا فِي مسَاء ذَلِك الْيَوْم وأغذ السّير إِلَى الْمغرب
وانْتهى الْخَبَر إِلَى مَنْصُور صَاحب فاس فزحف للقائه والتقى الْجَمْعَانِ بوادي أبي الأجراف من نَاحيَة تازا فاختل مصَاف مَنْصُور وانهزمت جموعه وَلحق بفاس الْجَدِيد فتحصن بهَا وَتَبعهُ أَبُو عنان فَأَنَاخَ عَلَيْهِ خَارِجهَا وَقد تسايل النَّاس على طبقاتهم إِلَيْهِ وآتوه طاعتهم وَكَانَ قد سلك مَعَ الرّعية والجند من الْبَذْل والاستيلاف طَرِيقا لم يسْبق إِلَيْهِ وَكَانَت منازلته لفاس الْجَدِيد فِي ربيع الآخر من السّنة الْمَذْكُورَة فَأخذ بمخنقها وَأجْمع الْأَيْدِي والفعلة على الْآلَات لحصارها ثمَّ أرسل إِلَى مكناسة بِإِطْلَاق أَوْلَاد أبي الْعَلَاء المعتقلين بالقصبة مِنْهَا فأطلقوا وَلَحِقُوا بِهِ وحاصروا مَعَه فاس الْجَدِيد وضيقوا عَلَيْهَا إِلَى أَن ضَاقَتْ أَحْوَال أَهلهَا وَاخْتلفت أهواؤهم وَنزع إِلَى أبي عنان أهل الشَّوْكَة مِنْهُم ثمَّ إِن إِدْرِيس بن عُثْمَان بن أبي الْعَلَاء احتال فِي فتح الْبَلَد بِأَن أظهر النُّزُوع عَن أبي عنان إِلَى مَنْصُور المحصور فَدخل الْبَلَد وَتمكن مِنْهُ وثار بِهِ فِيمَن مَعَه من حَاشِيَته واقتحمه الْأَمِير أَبُو عنان عَلَيْهِم وَنزل مَنْصُور على حكمه فاعتقله إِلَى أَن قَتله بمحبسه وَاسْتولى على ذَلِك الْملك وتسابقت إِلَيْهِ وُفُود الْأَمْصَار للتهنئة بالبيعة وَتمسك أهل سبتة بِطَاعَة السُّلْطَان
وَكَانَ من اتبعهُ اتبع الْهدى والنور وَمن اتبع غَيره اتبع الْفِتْنَة والضلال وَاحْذَرْ النَّاس أَوْلَاد يزِيد كَمَا حذر وَالِدي وَقد رأى من اتبعهُ أَو اتبع أَوْلَاده كَيفَ خَاضَ الظلمَة ونالته دَعْوَة وَالِده وَخرج على الْأمة وَأما أَنا فقد خفت قواي ووهن الْعظم مني واشتعل الرَّأْس شيبا حفظني الله فِي أَوْلَادِي وَالْمُسْلِمين آمين نصيحة وَصِيَّة سُلَيْمَان بن مُحَمَّد لطف الله بِهِ اه
وَفِي أثْنَاء هَذِه الْمدَّة وَقعت غدرة ذَوي بِلَال فِي انتهابهم الصاكة الْوَارِدَة من مرسى الصويرة وَكَانَ انتهابهم إِيَّاهَا بِاتِّفَاق من الشياظمة الَّذين جاؤوا مَعهَا وَقَائِدهمْ عَليّ بن مُحَمَّد الشيظمي هُوَ الَّذِي انتهب أَكْثَرهَا وَكَانَ فِيهَا من الذَّخَائِر النفيسة وَالْأَمْوَال الثَّقِيلَة شَيْء كثير وَهَذِه الْوَقْعَة هِيَ الَّتِي هدت أَرْكَان السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان رَحمَه الله فاعتراه مَرضه الَّذِي كَانَ سَبَب وَفَاته وَلما أثقله الْمَرَض أعَاد الْعَهْد للْمولى عبد الرَّحْمَن بن هِشَام وَبعث بِهِ إِلَى فاس إِذْ كَانَ خَليفَة بهَا كَمَا مر فَدَعَا رَحمَه الله بِصَحِيفَة بَيْضَاء ودعا بالطابع الْكَبِير فجيء بِهِ وَلم يحضرهُ إِلَّا أَهله من النِّسَاء فطبع الصَّحِيفَة بِيَدِهِ وَكتب بعض الْكتاب وأكملته بعض حظاياه مِمَّن كَانَت تحسن الْكِتَابَة ثمَّ طواه وَختم عَلَيْهِ ودعا الْقَائِد الجيلاني الرحماني الحويوي وَكَانَ قَائِد المشور وَقَالَ لَهُ ادْع لي فارسين يذهبان بِهَذَا الْكتاب إِلَى فاس وَقد عينت لَهما سخرة كَبِيرَة يقبضانها هُنَاكَ إِذا أَسْرعَا السّير فَكَانَ ذَلِك الْكتاب هُوَ الْعَهْد الَّذِي قرىء بفاس وَنَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم أخوالنا الودايا ورماة فاس وأعيانها ورؤساءها سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وعَلى ابْن عمنَا الْفَقِيه القَاضِي مولَايَ أَحْمد والفقيهين ابْن إِبْرَاهِيم والآزمي وَبعد فقد وجدت من نَفسِي مَا لَيْسَ بتارك أحدا فِي الدُّنْيَا وَهَذِه وَصِيَّة أقدمها بَين يَدي أَجلي وَالله مَا بَقِي فِي قلبِي مِثْقَال ذرة على أحد من خلق الله لِأَن ذَلِك أَمر قد قدره الله وَسبق علمه بِهِ وَلست فِيهِ بأوحد وَمَا وَقع لمن قبلي أشنع وأقطع وَإِنِّي قد عقدت
السُّلْطَان أعزه الله عُمَّال الْأَمْصَار وأمناءها أَن يرتبوا للنَّاس من الأقوات مَا ينتعشون بِهِ فَفَعَلُوا وَبعد هَذَا كُله حدث الوباء بالحمى فِي أَعْيَان النَّاس وأماثلهم فَهَلَك مِنْهُم عدد كثير وَفِي هَذِه المسغبة مد النَّصَارَى أَيْديهم إِلَى الرَّقِيق فاشتروه وَكَانَ ابْتِدَاء ذَلِك أَنهم كَانُوا يعاملون ضعفاء الْمُسلمين وصبيانهم بالصدقات والإرفاقات ثمَّ تجاوزوا ذَلِك إِلَى شِرَاء الرَّقِيق مِنْهُم وَالْأَمر لله وَحده يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَكَانَ فِي أوائلها موت النَّاس بالحمى كَمَا قُلْنَا فَمَاتَ فِي الْمحرم مِنْهَا الْوَزير الْأَعْظَم أَبُو عمرَان مُوسَى بن أَحْمد وَكَانَ شعلة ذكاء وتمثال فطنة ودهاء غفر الله لنا وَله واستوزر السُّلْطَان مَكَانَهُ الْفَقِيه الْأَخير أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ بن الْمُخْتَار بن عبد الْملك الجامعي من بَيت الوزارة وَأهل العراقة فِيهَا ويبلغنا عَنهُ أَنه يحب أهل الْخَيْر ويلين جَانِبه للضعفاء وَالْمَسَاكِين وَيُحب السُّلْطَان وَينْصَح لَهُ ويغار على جَانِبه الْمُعظم وحماه الْمُحْتَرَم ويتجافى عَن الطمع الَّذِي هُوَ أصل كل مفْسدَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا سدده الله وَفِي ظهر يَوْم الْأَحَد عَاشر صفر من السّنة الْمَذْكُورَة توفّي شَيخنَا الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي أَبُو بكر ابْن الْفَقِيه الْعَلامَة القَاضِي سَيِّدي مُحَمَّد عواد كَانَ رَحمَه الله من أهل الْمُشَاركَة فِي الْعلم والاعتناء بِهِ كثير الدَّرْس كثير التَّقْيِيد ختمنا عَلَيْهِ رَحمَه الله عدَّة كتب كبار جعلهَا الله فِي ميزَان حَسَنَاته مِنْهَا صَحِيح البُخَارِيّ نَحْو عشر مَرَّات وصحيح مُسلم ثَلَاث مَرَّات وشفاء القَاضِي عِيَاض مرَارًا وَكتاب الاكتفا لأبي الرّبيع الكلَاعِي مرّة وَأُخْرَى إِلَى غَزْوَة خَيْبَر وشمائل التِّرْمِذِيّ مرَّتَيْنِ بشرح أبي عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم جسوس وإحياء الْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ وعوارف المعارف للسهروردي وتآليف غَيرهَا من كتب النَّحْو وَالْفِقْه وَالْبَيَان وَالْكَلَام وَغير ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَبِالْجُمْلَةِ فقد انتفعنا عَلَيْهِ واستفدنا مِنْهُ رَحمَه الله ونفعنا بِهِ وَولي الْقَضَاء بعده الْفَقِيه الْعَالم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْجريرِي عرف بِابْن الْفَقِيه من بَيت الْعلم وَالدّين والصون وَهُوَ رَحمَه الله يتحَرَّى المعدلة فِي أَحْكَامه وينتهج صَرِيح الشَّرْع فِي جَمِيع أُمُوره سدده الله وكلاه وَتَوَلَّى

الصفحة 165