كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
ركُوب السُّلْطَان أبي الْحسن الْبَحْر من تونس إِلَى الْمغرب وَمَا جرى عَلَيْهِ من المحن فِي ذَلِك
كَانَ الْأَمِير أَبُو الْعَبَّاس الْفضل أَبُو السُّلْطَان أبي بكر الحفصي بعد أَن لحق بِعَمَلِهِ الْقَدِيم من بونة قد وَفد عَلَيْهِ مشيخة الْعَرَب من اولاد أبي اللَّيْل وأغروه بِملك إفريقية والنهوض إِلَى تونس ومحاصرة السُّلْطَان أبي الْحسن بهَا فأجابهم إِلَى ذَلِك ونهض إِلَيْهَا بعد عيد الْفطر سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة فحاصرها مُدَّة ثمَّ انفض عَنْهَا ثمَّ عاود حصارها ثمَّ انفض عَنْهَا وَدخل الْفقر مَعَ أَوْلَاد أبي اللَّيْل إِلَى أَن بَايعه أهل بِلَاد الجريد بِإِشَارَة أبي الْقَاسِم بن عتو الْمَقْطُوع وَدخل فِي طَاعَته توزر وقفصة ونفطة والحامة وَقَابِس وجربة وانْتهى الْخَبَر إِلَى السُّلْطَان أبي الْحسن باستيلاء الْفضل على هَذِه الْأَمْصَار واستفحال أمره بهَا وَأَنه ناهض إِلَى تونس فأهمه شَأْنه وخشي على الْأَمر وَكَانَت بطانته توسوس إِلَيْهِ بالرحلة إِلَى الْمغرب لاسترجاع نعمتهم باسترجاع ملكه مَعَ مَا أَصَابَهُم بتونس من الغلاء وَالْمَوْت الذريع فاجابهم إِلَى ذَلِك وشحن أساطيله بالأقوات وأزاح علل الْمُسَافِرين وَلما قضى نسك عيد الْفطر من سنة خمسين وَسَبْعمائة ركب الْبَحْر فِي فصل الشتَاء وهيجان الْبَحْر وكلب الْبرد بعد أَن عقد لِابْنِهِ أبي الْفضل على تونس ثِقَة بِمَا بَينه وَبَين عمر بن حَمْزَة من الْمُصَاهَرَة وتفاديا بمكانه من معرة الغوغاء وثورتهم بِهِ وَكَانَت مُدَّة محاصرة السُّلْطَان أبي الْحسن بتونس سنة وَنصفا واتصل خبر رحيله بِالْفَضْلِ بن أبي بكر وَهُوَ بِبِلَاد الجريد فأغذ السّير إِلَى تونس وَنزل بهَا على أبي الْفضل المريني وَمن كَانَ مَعَه من حَاشِيَته وَأهل دولته ثمَّ اقتحمها واتصلت يَده بيد أهد الْبَلَد ثمَّ أحاطوا بالقصبة يَوْم منى حَتَّى استنزلوا أَبَا الْفضل على الْأمان فَخرج إِلَى دَار أصهاره من بني حَمْزَة فَبَقيَ عِنْدهم حَتَّى أنفذوا مَعَه من أوصله إِلَى أَبِيه فلحق بِهِ بثغر الجزائر
وَأما السُّلْطَان أَبُو الْحسن وجيشه الرَّاكِب الْبَحْر مَعَه فَإِنَّهُم لما لججوا احتاجوا إِلَى المَاء فَدَخَلُوا مرسى بجاية لخمس لَيَال من إقلاعهم عَن تونس فَمَنعهُمْ صَاحب بجاية الحفصي من الْوُرُود وأوعز إِلَى سَائِر سواحله بمنعهم
دَرْء الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ والتماس التَّأْوِيل وَقبُول الْعذر حَتَّى لقد حكى عَنهُ أَنه مَا اعْتمد الْبَطْش بِأحد وتصدى لنكبته لغَرَض نفساني أَو لحظ دُنْيَوِيّ وحسبك من حلمه مَا قَابل بِهِ الخارجين عَلَيْهِ
قَالَ صَاحب الْجَيْش لما عزمت على الْخُرُوج من فاس أَيَّام الْفِتْنَة لملاقاة السُّلْطَان الْمولى سُلَيْمَان بقصر كتامة جِئْت إِلَى القَاضِي أبي الْفضل عَبَّاس بن أَحْمد التاودي لأودعه فَكَانَ من جملَة مَا أَوْصَانِي بِهِ قَالَ قل لمولانا السُّلْطَان يَقُول لَك عَبَّاس إِنَّا نَخَاف إِذا ظَفرت بهؤلاء الظلمَة أَن تصفح عَنْهُم فَلَمَّا اجْتمعت بالسلطان أبلغته مقَالَة القَاضِي فَقَالَ كَيفَ أصفح عَنْهُم وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي عَزِيز لَا أتركك تمسح سبلتك بِمَكَّة وَتقول خدعت مُحَمَّدًا مرَّتَيْنِ فَلَمَّا فتح الله عَلَيْهِ فاسا كَانَ جَوَابه أَن قَالَ لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ بل تعجل بِالْخرُوجِ مِنْهَا مَخَافَة أَن يغريه بعض بطانته بِأحد مِنْهُم فلعمري لقد صدق من قَالَ إِن التخلق يَأْتِي دونه الْخلق
وَأما الدّين وَالتَّقوى فَذَلِك شعاره الَّذِي يمتاز بِهِ ومذهبه الَّذِي يدين الله بِهِ من أَدَاء الْفَرِيضَة لوَقْتهَا الْمُخْتَار حضرا وسفرا وَقيام رَمَضَان وإحياء لياليه بالإشفاع ينتقي لذَلِك الأساتيذ ومشايخ الْقُرَّاء وَيجمع أَعْيَان الْعلمَاء لسرد الحَدِيث الشريف وتفهمه والمذاكرة فِيهِ على مر اللَّيَالِي وَالْأَيَّام ويتأكد ذَلِك عِنْده فِي رَمَضَان ويشاركهم بغزارة علمه وَحسن ملكته ويتناول راية السَّبق فِي فهم الْمسَائِل الَّتِي يعجز عَنْهَا غَيره فَيُصِيب الْمفصل ويواظب على صِيَام الْأَيَّام المستحبة من كل شهر ويعظم الْعلمَاء الَّذين هم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وَيرْفَع مناصبهم على سَائِر رجال دولته وَيجْرِي عَلَيْهِم الأرزاق ويعطيهم الدّور الْمُعْتَبرَة والضياع المغلة وَيحسن مَعَ ذَلِك إِلَى من دونهم فِي الْمرتبَة من المدرسين وطلبة الْعلم ويؤثر المعتنين مِنْهُم وَذَوي الْفَهم بمزيد البروتضعيف الجراية حَتَّى لقد تنافس النَّاس فِي أَيَّامه فِي اقتناء الْعُلُوم وانتحال صناعتها لاعتزاز الْعلم وَأَهله فِي دولته وسعة أَرْزَاقهم
(أَو مَا ترى علم الْبشَارَة لائحة ... أَو مَا تشاهد نورها يتَرَدَّد)
(هَذَا زمَان ظُهُور طلعة أَحْمد ... فِي عَالم الأجساد هَذَا المولد)
(طُوبَى لمن يروي غَرِيب حَدِيثه ... متأدبا ويعيده ويردد)
(طُوبَى لمن يقْضِي حُقُوق مديحه ... ويجيده نظما بديعا ينشد)
(فمديح خير الْخلق أعظم قربَة ... لكنه فِي ذَا الأوان مُؤَكد)
(يَا لَيْلَة مَا كَانَ أعظم قدرهَا ... مَعَ فجرها طلع النَّبِي مُحَمَّد)
(فاسرد شمائله الحسان وَمَا لَهُ ... من معجزات بِالنُّبُوَّةِ تشهد)
(وَاذْكُر عجائب مولد قرت بِهِ ... عين الْمُحب وضاق مِنْهُ الأحقد)
(وَاجعَل دعاءك للْإِمَام المرتضى ... إِن الدُّعَاء لَهُ لحق أوكد)
(واملأ بدر مديحه أسماع من ... حَضَرُوا لَدَيْهِ وضمهم ذَا المشهد)
(سَاس الرّعية صَادِقا فعنت لَهُ ... أُمَم وَقد كَانَت قَدِيما تشرد)
(من كَفه فاضت مواهب جمة ... فالكف مِنْهُ للعفاة المورد)
(طود أتآد شامخ ذُو همة ... علياء يقصر عَن علاها الفرقد)
(مَا جود حَاتِم طيىء مَا حلم أحنف ... إِن ذَا لَهو الْحَلِيم الأجود)
(أزكى الْمُلُوك أرومة وأجلهم ... قدرا وأسبقهم لأمر يحمد)
(باهى بِهِ الغرب الممالك فاغتدى ... مِنْهُ يغار قريبها والأبعد) وَمن آخرهَا
(مولَايَ يَا تَاج الْمُلُوك وفخرهم ... فليهنك الْعِيد الْأَغَر الأسعد)
(لله موسم مولد لَك عَائِد ... بمسرة مَوْصُولَة تتجدد)
(لَا زلت ممنوحا جلائل أنعم ... مَا اهتز فِي روض بهي أملد)
(لَا زلت محروسا بِعَين عناية ... مَا رنم الْحَادِي وَحبر منشد)
وَفِي ربيع الثَّانِي من سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ورد كتاب السُّلْطَان أعزه الله على قَاضِي سلا بِتَعْيِين صاحبنا الشريف الأديب فلكي الْعَصْر أبي الْعَلَاء إِدْرِيس بن مُحَمَّد الجعيدي السلاوي للذهاب إِلَى مراكش برسم الْقيام على إحصاء صائر السُّلْطَان بهَا بَدَلا عَن الْفَقِيه أبي مُحَمَّد عبد الله بن
الصفحة 170