كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

أَخُو عُثْمَان الْمَذْكُور وَلما التقى الْجَمْعَانِ اخْتَلَّ مصَاف السُّلْطَان أبي الْحسن واستبيح مُعَسْكَره وانتبهت فساطيطه وَقتل ابْنه النَّاصِر وَظهر يَوْمئِذٍ من بسالته وَصدق دفاعه وَشدَّة حملاته حَتَّى أَنه أركب ظعائنه وخلص محاميا عَنْهَا وَاحْتمل وَلَده جريحا فَتوفي بِالطَّرِيقِ فواراه فِي التُّرَاب وأخفى قَبره ثمَّ خلص إِلَى الصَّحرَاء مَعَ وليه ونزمار بن عريف بن يحيى السويدي وَلحق بحلل قومه قبْلَة جبل وانشريس وَأجْمع أمره على قصد الْمغرب موطن قومه ومنبت عزه وَدَار ملكه فارتحل مَعَه وليه ونزمار بالناجعة من قومه وَخَرجُوا إِلَى جبل رَاشد ثمَّ قطعُوا المفاوز إِلَى سجلماسة فِي القفر فَلَمَّا أطلوا عَلَيْهَا وعاين أَهلهَا السُّلْطَان تهافتوا عَلَيْهِ تهافت الْفراش على ضوء السراج حَتَّى خرج إِلَيْهِ العذارى من ستورهن ميلًا إِلَيْهِ ورغبة فِي ولَايَته وفر الْعَامِل بسجلماسة إِلَى منجاته
وَكَانَ الْأَمِير أَبُو عنان لما بلغه الْخَبَر بِقصد أَبِيه سجلماسة نَهَضَ إِلَيْهِ فِي قومه وجموعه بعد أَن أزاح عللهم وأفاض عطاءه فيهم وَكَانَت بَنو مرين نافرة عَن السُّلْطَان أبي الْحسن حاذرة من عُقُوبَته لجنايتهم بالتخاذل فِي المواقف والفرار عَنهُ فِي الشدائد وَلما كَانَ يبعد بهم فِي الْأَسْفَار ويتجشم بهم المهالك والأخطار فَكَانُوا لذَلِك مُجْمِعِينَ على منابذته ومخلصين فِي طَاعَة ابْنه وَلما اتَّصل خبر قدومهم بالسلطان أبي الْحسن علم من حَاله أَنه لَا يُطيق دفاعهم وَكَانَ ونزمار قد أجفل عَنهُ فِي قومه سُوَيْد لِأَن أَبَاهُ عريف بن يحيى كَانَ قد نزع إِلَى أبي عنان قبل قدوم السُّلْطَان من تونس فَأكْرم مَحَله وَرفع مَنْزِلَته فَكتب إِلَى ابْنه ونزمار ينهاه عَن ولَايَة السُّلْطَان أبي الْحسن ومظاهرته لَهُ وَأقسم لَهُ لَئِن لم يُفَارق السُّلْطَان ليوقعن بِابْنِهِ عنتر وَكَانَ مَعَه فِي جملَة الْأَمِير أبي عنان فآثر ونزمار رضَا أَبِيه وَعلم أَن غناءه عَن السُّلْطَان فِي وَطن الْمغرب قَلِيل فأجفل عَنهُ وَلحق بسكرة فَكَانَ بهَا إِلَى أَن رَجَعَ إِلَى أبي عنان بعد هَذَا وَلما قرب أَبُو عنان من سجلماسة أجفل السُّلْطَان عَنْهَا إِلَى نَاحيَة مراكش وَدخل أَبُو عنان سجلماسة فثقف أطرافها وسد فروجها وَعقد عَلَيْهَا ليحتاتن بن عمر بن عبد الْمُؤمن كَبِير بني ونكاسن وبلغه أَن أَبَاهُ قد سَار إِلَى مراكش فاعتزم على اتِّبَاعه إِلَيْهَا فَلم تطاوعه بَنو مرين فَرجع بهم إِلَى فاس إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ
الحروب بِنَفسِهِ وَيعْمل بِعَمَل أهل الصَّدْر الأول فيقف فِي قلب الْجَيْش كالجبل الراسي وأمراؤه يباشرون الْحُرُوف بِأَنْفسِهِم فِي الميمنة والميسرة وَهُوَ ردء لَهُم كلما رأى فُرْجَة سدها أَو خللا أصلحه وَهُوَ كالصقر مطل على حومة الوغا فَإِذا أمكنته فرْصَة أنتهزها وَمن شدَّة ثباته وَعدم تزحزحه أَنه كَانَ لَا يركب وَقت الْحَرْب إِلَّا البغلة وَبِذَلِك جرى عَلَيْهِ فِي وقْعَة ظيان والشراردة مَا جرى فَكَانَ حماته يفرون عَنهُ بِلَا حَيَاء وَيبقى هُوَ ثَابتا رَحمَه الله
وَأما جمعه لأشتات الْعُلُوم فَلَقَد كَانَ وَارِثا من وَرَثَة الْأَنْبِيَاء حَامِلا للواء الشَّرِيعَة جَامعا مَانِعا إِذا بوحث فِي الْأَخْبَار كَانَ كجامع سُفْيَان أَو فِي الْأَشْعَار فكنابغة ذبيان أَو فِي الفطنة والفراسة فكإياس أَو فِي النجدة والرأي فكالمهلب وَإِذا خَاضَ فِي السّنة وَالْكتاب أبدى ملكة مَالك وَابْن شهَاب وَلَو تصدى فِي الْفِقْه للفتيا والتدريس لم يشك سامعه أَنه ابْن الْقَاسِم أَو ابْن إِدْرِيس وَإِذا تكلم فِي عُلُوم الْقُرْآن أنهل بِمَا يغمر مورد الظمآن
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَلَا يعرف مِقْدَار هَذَا السُّلْطَان إِلَّا من تغرب عَن الأوطان وَحمل عَصا التسيار ورمت بِهِ فِي الأقطار الْأَسْفَار وَشَاهد سيرة الْمُلُوك فِي الْعباد وَمَا عَمت بِهِ الْبلوى فِي سَائِر الْبِلَاد وَلَا يتَحَقَّق أهل الْمغرب بعدله إِلَّا بعد مغيبه وفقده
(الْمَرْء مَا دَامَ حَيا يستهان بِهِ ... ويعظم الرزء فِي حِين يفتقد)
وَمن آثاره الْبَاقِيَة وبناءاته العادية فبفاس الْمَسْجِد الْأَعْظَم بالرصيف الَّذِي لَا نَظِير لَهُ كَانَ حفر أساسه الْمولى يزِيد واشتغل عَنهُ وَتَركه فَافْتتحَ هُوَ عمله ببنائه وتشييده وأبقاه دينا على الْمُلُوك وَبنى مَسْجِد الدِّيوَان كَانَ صَغِيرا فهدمه وَزَاد فِيهِ أملاكا وَجعله مَسْجِدا جَامعا تُقَام فِيهِ الْجُمُعَة وَبنى مَسْجِد الشرابليين زَاد فِيهِ ووسعه وَجعله مَسْجِدا جَامعا كَذَلِك وَبنى مَسْجِد الشَّيْخ أبي الْحسن بن غَالب وضريحه وَبنى ضريح الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب التازي وَهدم مدرسة الْوَادي ومسجدها لتلاشيهما وجددهما على شكل آخر وجدد الْمدرسَة العنانية وَأصْلح مَسْجِد القصبة البالية وبيضه بالجص وزلجه وَبنى بَاب الْفتُوح على هَيْئَة ضخمة وَبَاب بني مُسَافر وَالْبَاب الْجَدِيد
(فَهُوَ المنى لِذَوي الحجا وبغيتهم ... وسيب يمناه مثل الزاخر العرم)
(يدني الْأُصُول إِلَى نيل الْوُصُول ويحيينا ... بنعمته كالأرض بالديم)
(مَا زَالَ يحيى بهَا بِلَاد مغربنا ... فاقرع بصدقك بَاب الْجُود تغتنم)
(واسلك سَبِيل الصَّفَا تنَلْ بِهِ شرفا ... وَاقْبَلْ نصيحة من حباك واستقم)
(يَا غَايَة الْقَصْد إِنِّي رَاغِب طرب ... مستمسك بجوار مِنْك لم يضم)
(مولَايَ يَا من مزاياه وأنعمه ... فِي النَّاس أشهر من نَار على علم)
(مولَايَ أَنْت الَّذِي تغني الضَّعِيف إِذا ... مَا الدَّهْر أفْضى بِهِ لقبضة الْهَرم)
(بِشِرَاك إِن الفرنج سَوف يُدْرِكهَا ... مِنْكُم صغَار بِهِ تداس بالقدم)
(فَأَنت ذُو مدد وهم ذَوُو نكد ... وَأَنت ذُو جذل وهم ذَوُو غمم)
(مولَايَ جد برضاك لي وَخذ بيَدي ... واحرس جنابي بِهِ من سَائِر الْأَلَم)
(وَاجعَل ثِيَاب الرضى سترا عَليّ وَلَا ... يرى بِهِ حَبل عروتي بمنفصم)
(فها أَنا ذَاك عِنْد بَاب سيدنَا ... أَرْجُو قبولا ووصلا غير منصرم)
(أبقاك رَبك فِي عز ومكرمة ... بِاللَّه أَمرك نَافِذ على الْأُمَم)
(أدامك الله مَنْصُور اللِّوَاء على ... كل الأعادي وَلَا بَرحت فِي نعم)
وَفِي آخر هَذِه السّنة ورد كتاب السُّلْطَان أيده الله باستدعاء صاحبنا أبي مُحَمَّد بن خضراء الْمَذْكُور آنِفا لتوليته خطة الْقَضَاء بِحَضْرَة مراكش فامتثل ووفد على أَمِير الْمُؤمنِينَ أدام الله علاهُ بِحَضْرَتِهِ السعيدة من فاس المحروسة بِاللَّه فولاه الْقَضَاء بمراكش وَسَار إِلَيْهَا وَهُوَ الْآن بهَا مَحْمُود السِّيرَة حسن السريرة سدده الله وكلاه وَقَالَ فِي وفادته على الحضرة الشَّرِيفَة قصيدة يمدح بهَا الجناب المولوي وَنَصهَا
(لبيْك دمت مؤيدا ومظفرا ... وَلَك الْكَمَال كَمَا تشَاء موفرا)
(وافى خديمك أَمرك العالي الَّذِي ... فِي ضمنه إسعاده بَين الورى)
(إِذْ خص دونهم بأشرف دَعْوَة ... يَا سعد من أضحى بهَا مُسْتَبْشِرًا)
(فَأجَاب مبتدرا إِجَابَة صَادِق ... لم يلهه أهل وَلَا حب الذرى)
(وطوى المراحل كي يحل بِحَضْرَة ... يلقى بهَا وَجه الْأَمَانِي مُسْفِرًا)

الصفحة 172