كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

المتهمين بالخوض فِي الْفِتْنَة يناهزون الْمِائَتَيْنِ فاعتقلهم وأركبهم الأسطول إِلَى الْمغرب فاطمأن النَّاس وَسَكنُوا وتوافت لَدَيْهِ وُفُود الذواودة من كل جِهَة فأجزل صلَاتهم ووفد عَلَيْهِ عَامل الزاب يُوسُف بن مزني فَأكْرم وفادته ثمَّ ارتحل إِلَى تلمسان غرَّة جمدى الأولى من السّنة وَمَعَهُ شُيُوخ الذواودة ووجوه بجاية
قَالَ ابْن خلدون وَكنت يَوْمئِذٍ فِي جُمْلَتهمْ فَجَلَسَ السُّلْطَان للوفد وَعرض مَا جنب إِلَيْهِ من الْجِيَاد والهدايا وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وَانْصَرفُوا إِلَى مواطنهم فاتح شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة قَالَ وانقلبت مَعَ الْحَاجِب بعد إسناء الْجَائِزَة وَالْخلْع والحملان من السُّلْطَان والوعد الْجَمِيل بتجديد مَا إِلَى قومِي ببلدي من الإقطاعات وَلما احتل الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو ببجاية ضبط أمرهَا وَأقَام أودها وألح على قسنطينة بترديد الْبعُوث وتجهيز الْكَتَائِب إِلَى أَن أذعنوا للطاعة ومكنوه من تاشفين ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن الْمَنْصُوب هُنَاكَ للفتنة وأوفد أَبُو زيد الحفصي صَاحب قسنطينة ابْنه على السُّلْطَان أبي عنان فَقبل وفادته وشكر سَعْيه وانكفأ الْحَاجِب ابْن أبي عَمْرو إِلَى بجاية وَأقَام بهَا إِلَى أَن هلك فِي الْمحرم سنة سِتّ وَخمسين وَسَبْعمائة فَذهب حميد السِّيرَة عِنْد أهل الْبَلَد وَعقد السُّلْطَان أَبُو عنان على بجاية لعبد الله بن عَليّ بن سعيد أحد وزرائه فَنَهَضَ إِلَيْهَا فِي ربيع من سنة سِتّ وَخمسين الْمَذْكُورَة فاستقر بهَا وسلك سنَن الْحَاجِب قبله وَسيرَته وجهز العساكر إِلَى حِصَار قسنطينة إِلَى أَن كَانَ من فتحهَا مَا نذكرهُ بعد إِن شَاءَ الله
خُرُوج أبي الْفضل ابْن السُّلْطَان أبي الْحسن بِبِلَاد السوس ثمَّ مَقْتَله عقب ذَلِك

قد تقدم لنا أَن السُّلْطَان أَبَا الْحسن لما ركب الْبَحْر من تونس إِلَى الْمغرب عقد على تونس لِابْنِهِ أبي الْفضل هَذَا وَأَنه لما أقلع عَنْهَا ثار أهل الْبَلَد وشيعة الحفصيين عَلَيْهِ فأخرجوه عَنْهَا وَلحق بِأَبِيهِ فَكَانَ مَعَه إِلَى أَن هلك وخلص الْأَمر إِلَى السُّلْطَان أبي عنان فلحق بِهِ هُوَ وَأَخُوهُ أَبُو سَالم ففكر أَبُو
المتجددة وَلَيْسَ ذَلِك تجديدا للِاجْتِهَاد من الْمُقَلّد حَتَّى تشْتَرط فِيهِ أَهْلِيَّة الِاجْتِهَاد بل هَذِه قَاعِدَة اجْتهد فِيهَا الْعلمَاء وَأَجْمعُوا عَلَيْهَا فَنحْن نتبعهم فِيهَا من غير اسْتِئْنَاف اجْتِهَاد اهـ وَنَحْوه لَهُ فِي كتاب الفروق وَنَقله عَنهُ الْأَئِمَّة واعتمدوه فَبَان من هَذَا أَنه لَا معنى للإفتاء الْيَوْم بِمَنْع بيع شَيْء من الْكفَّار أيا كَانَ إِلَّا الْمُصحف وَالْمُسلم وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا لأَنهم بلغُوا الْيَوْم من الْقُوَّة إِلَى الْحَد الَّذِي لم يكن لأحد فِي ظن وَلَا حِسَاب إِلَّا أَن يُرِيد الله كفايتنا إيَّاهُم بِأَمْر من عِنْده فَهُوَ سُبْحَانَهُ ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ وَذَلِكَ ظننا بِهِ تَعَالَى فَإِن قلت هَهُنَا مضرَّة أُخْرَى تمنع من بيع مَا طلبوه وَهِي التَّضْيِيق على الْمُسلمين فِي مَعَايشهمْ ومرافقهم لأَنهم إِذا أَكَبُّوا على شِرَاء هَذِه الْأَشْيَاء فَلَا بُد أَن تغلو وترتفع أثمانها وَفِي ذَلِك من الْإِضْرَار بِالْمُسْلِمين مَا لَا يخفى وَلذَا أفتى الْأَئِمَّة بِمَنْع الحكرة فِي كل مَا للنَّاس بِهِ حَاجَة من طَعَام وأدام وعروض فَإِن كَانَ فِي الْحَال سَعَة وَلم يضر الاحتكار بِالنَّاسِ جَازَ فِي الطَّعَام وَغَيره قلت وَالنَّاس الْيَوْم وَالْحَمْد لله فِي سَعَة وَأما حُصُول التَّضْيِيق عَلَيْهِم فِي مَعَايشهمْ ومرافقهم بِسَبَب تَسْرِيح وسق هَذِه الْأَشْيَاء لِلنَّصَارَى فمشكوك فِيهِ قد يحصل وَقد لَا يحصل وَالشَّكّ مطروح فِي نظر الشَّرْع بِخِلَاف الْمضرَّة المتوقعة مِنْهُم عِنْد الْمَنْع والمحاربة فمقطوع بهَا نظرا للقرائن القوية وَالْعَادَة فَإِن قلت بل الْغَالِب حُصُول التَّضْيِيق لَا أَنه مَشْكُوك فَقَط قلت لَيْسَ بغالب فقد رأيناهم مُنْذُ أزمان وهم مكبون على وسق أَشْيَاء كَثِيرَة مثل القطاني وَغَيرهَا وَمَعَ ذَلِك لم يحصل فِيهَا وَالْحَمْد لله إِلَّا الرخَاء بل الْحق إِن هَذَا من علم الْغَيْب لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يحكم عَلَيْهِ بِغَلَبَة وَلَا قلَّة لِأَن الحكم فِي ذَلِك بالتخمين من بَاب التخرص على الله تَعَالَى فِي غيبه وَهُوَ حرَام على أَن النَّصَارَى إِذا اشْتَروا منا شَيْئا من ذَلِك فَإِنَّمَا يشترونه بِالثّمن الَّذِي لَهُ بَال ويعشرونه بالصاكة الَّتِي لَهَا بَال فَتحصل الأرباح للرعية وللسلطان وَهَذِه مَنْفَعَة مَقْطُوع بهَا وَأما الغلاء فمشكوك كَمَا قُلْنَا وَالْحَاصِل أَن الأبحاث والتفريعات فِي هَذَا الْمَوْضُوع كَثِيرَة وَفِي هَذِه النبذة كِفَايَة لمن استبصر وَالله الْمُوفق وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ النّظر من جِهَة الرَّأْي والسياسة وَلَا بُد فِيهِ من

الصفحة 186