كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
وَألقى بِنَفسِهِ على ابْن الْحميدِي مِنْهُم مِمَّا يَلِي بِلَاد درعة فأجاره وَقَامَ بأَمْره ونازله عَامل درعة يَوْمئِذٍ عبد الله بن مُسلم الزردالي من مشيخة بني عبد الواد كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحسن رَحمَه الله قد اصطنعه أَيَّام فَتحه لتلمسان فاستقر فِي دولتهم واندرج فِي صنائعهم فَأخذ بمخنق ابْن الْحميدِي وأرهبه بوصول العساكر والوزراء إِلَيْهِ وداخله فِي التقبض على أبي الْفضل وَأَن يبْذل لَهُ من المَال فِي ذَلِك مَا أحب فَأجَاب ولاطف عبد الله بن مُسلم الْأَمِير أَبَا الْفضل ووعده من نَفسه الدُّخُول فِي الْأَمر وَطلب لقاءه فَركب إِلَيْهِ أَبُو الْفضل وَلما استمكن مِنْهُ ابْن مُسلم تقبض عَلَيْهِ وَدفع لِابْنِ الْحميدِي مَا اشْترط لَهُ من المَال وأشخصه معتقلا إِلَى أَخِيه السُّلْطَان أبي عنان سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة فأودعه السجْن وَكتب بِالْفَتْح إِلَى القاصية ثمَّ قَتله لليال يسيرَة من اعتقاله خنقا بمحبسه وانقضى أَمر الْخَوَارِج وتمهدت الدولة إِلَى أَن كَانَ مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله
وفادة الْوَزير ابْن الْخَطِيب من قبل سُلْطَانه الْغَنِيّ بِاللَّه على السُّلْطَان أبي عنان رَحِمهم الله
كَانَ السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن الْأَحْمَر قد أوفد وزيره لِسَان الدّين ابْن الْخَطِيب على السُّلْطَان أبي عنان إِثْر مهلك السُّلْطَان أبي الْحسن معزيا لَهُ بمصابه فَقدم ابْن الْخَطِيب وَأدّى الرسَالَة وجلى فِي اغراض تِلْكَ السفارة وَعَاد إِلَى غرناطة ثمَّ هلك السُّلْطَان أَبُو الْحجَّاج سنة خمس وَخمسين وَسَبْعمائة بمصلى عيد الْفطر وَهُوَ ساجد طعنه بعض الزعانف فأصماه لوقته وَبَايع النَّاس ابْنه مُحَمَّد بن يُوسُف الْغَنِيّ بِاللَّه وَقَامَ بِأَمْر دولته مَوْلَاهُ رضوَان الراسخ الْقدَم فِي قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من مُلُوكهمْ واستبد بِالْأَمر وَانْفَرَدَ ابْن الْخَطِيب بوزارته كَمَا كَانَ لِأَبِيهِ من قبل وَاتخذ لكتابته غَيره وَجعل ابْن الْخَطِيب رديفا لرضوان فِي أمره وتشاركا فِي الاستبداد
هَذَا الْفَصْل أَيْضا طَوِيل وَفِيمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ كِفَايَة فَإِن قلت أَرَاك قد صيرت الْجِهَاد الَّذِي حث عَلَيْهِ الشَّرْع ووعد عَلَيْهِ بالثواب الْعَظِيم مَحْض فتْنَة وَقد زهدت النَّاس فِيهِ وَقطعت آمالهم مِنْهُ بِهَذَا الْكَلَام قلت أعلمت يَا أخي مَا هُوَ الْجِهَاد الَّذِي حث عَلَيْهِ الشَّرْع ووعد عَلَيْهِ بالثواب الْعَظِيم اعْلَم أَن الْجِهَاد الْمَذْكُور هُوَ قتال أهل الشّرك والطغيان على إعلاء كلمة الرَّحْمَن لينساقوا بذلك إِلَى الدُّخُول فِي دين الله طَوْعًا أَو كرها ولتكون كلمة الله هِيَ الْعليا وَكلمَة الشَّيْطَان هِيَ السُّفْلى مَعَ نَفاذ البصيرة وخلوص النِّيَّة والغيرة على دين الله وكل ذَلِك بِشَرْط الْقُوَّة المكافئة أَو الْقَرِيبَة مِنْهَا وَمهما اخْتَلَّ ركن أَو شَرط مِمَّا ذكرنَا كَانَ إِلَى الْفِتْنَة أقرب مِنْهُ إِلَى الْجِهَاد بل نقُول إِن الْجِهَاد الشَّرْعِيّ قد تعذر مُنْذُ أحقاب فَكيف تطلبه الْيَوْم فَإِن كنت تسارع إِلَى الْحَرْب لتدركه جهلا مِنْك بِحَقِيقَة الْأَمر فَاعْلَم أَنَّك إِنَّمَا تسارع إِلَى إيقاد نَار الْفِتْنَة وايجاد الْعَدو السَّبِيل عَلَيْك وإمكانه من ثغرتك وتسليطه على السَّبي لحريمك وَمَالك ودمك نسْأَل الله الْعَافِيَة اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تكون مِمَّن اخْتَارَهُمْ الله وأهلهم لذَلِك وَكتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ كَمَا نسْمع الْيَوْم عَن أمة الْحَبَشَة والنوبة الَّذين يُقَاتلُون عَسَاكِر النجليز على تخوم صَعِيد مصر وَغَيرهَا فقد تَوَاتر النَّقْل وَصَحَّ الْخَبَر أَن دولة النجليز قد بارت حيلها مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم وَأَنَّهَا وجهت إِلَيْهِم العساكر من الديار المصرية بِكُل قُوَّة وشوكة مرّة بعد أُخْرَى فمحقوهم محقا مَعَ أَنهم لايقاتلونهم فِي الْغَالِب إِلَّا بالحراب على عَادَة السودَان فِي ذَلِك والنصر بيد الله وَأما الْوَجْه الثَّالِث وَهُوَ الْفَهم عَن الله تَعَالَى وَالنَّظَر فِي تَصَرُّفَاته سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْوُجُود بِعَين الِاعْتِبَار فَهَذَا حق الْكَلَام فِيهِ أَن يكون من أَرْبَاب البصائر المتنورة والقلوب المطهرة لَا من أمثالنا الَّذين أَصْبحُوا على أنفسهم مسرفين وَفِي أَوديَة الشَّهَوَات منهمكين تداركنا الله بِلُطْفِهِ لَكنا نقُول وَإِن كَانَ القَوْل من بَاب الفضول إِذا نَظرنَا مَا عَامل الله تَعَالَى بِهِ عَبده أَمِير الْمُؤمنِينَ مَوْلَانَا الْحسن أيده الله وَجَدْنَاهُ وَالْحَمْد لله مصنوعا لَهُ مصحوبا بالعناية الإلهية مكلوء بِعَين الرِّعَايَة الربانية تصحبه السَّعَادَة أَيْنَمَا توجه ويختار لَهُ فِي جَمِيع مَا يحاوله وَلَا تنجلي مهماته إِلَّا عَن
الصفحة 191