كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
الدّفع وَشرح مجملها وَإِن اخرس اللِّسَان هولها وَأسلم الْعبارَة قوتها وحولها إِنَّه رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لما برز لإِقَامَة سنة هَذَا الْعِيد مستشعرا شعار كلمة التَّوْحِيد مظْهرا سمة الخضوع للْمولى الَّذِي تضرع بَين يَدَيْهِ رِقَاب العبيد آمنا بَين قومه وَأَهله متسربلا فِي حلل نعم الله تَعَالَى وفضله قرير الْعين باكتمال عزه واجتماع شَمله قد احترس بأقصى استطاعته وَاسْتظْهر بخلصان طَاعَته وَالْأَجَل الْمَكْتُوب قد حضر والإرادة الإلهية قد أنفذت الْقَضَاء وَالْقدر وَسجد بعد الرَّكْعَة الثَّانِيَة من صلَاته أَتَاهُ أمرالله لميقاته على حِين الشَّبَاب غض جلبابه وَالسِّلَاح زاخر عبابه وَالدّين بِهَذَا الْقطر قد أينع بالأمن جنابه وَأمر من يَقُول للشَّيْء كن فَيكون قد بلغ كِتَابه وَلم يرعه وَقد اطمأنت بِذكر الله تَعَالَى الْقُلُوب وخلصت الرغبات إِلَى فَضله الْمَطْلُوب إِلَّا شقي قيضه الله تَعَالَى لسعادته غير مَعْرُوف وَلَا مَنْسُوب وخبيث لم يكن بمعتبر وَلَا مَحْسُوب تخَلّل الصُّفُوف المعقودة وَتجَاوز الْأَبْوَاب المسدودة وخاض الجموع المشهودة والأمم المحشورة إِلَى طَاعَة الله المحشودة لَا تدل الْعين عَلَيْهِ شارة وَلَا بزَّة وَلَا تحمل على الحذر من مثله أَنفه وَلَا عزة وَإِنَّمَا هُوَ خَبِيث ممرور وكلب عقور وحية سمها وَحي مَحْذُور وَآلَة مصرفة لينفذ بهَا قدر مَقْدُور فَلَمَّا طعنه وأثبته وأعلق بِهِ شرك الْحِين فَمَا أفلته قبض عَلَيْهِ من الخلصان الْأَوْلِيَاء من خبر ضَمِيره وَأحكم تَقْرِيره فَلم يجب عِنْد الِاسْتِفْهَام جَوَابا يعقل وَلَا عثر على شَيْء عَنهُ ينْقل لطفا من الله أَفَادَ بَرَاءَة الذمم وتعاورته للحين أَيدي التمزيق وَاتبع شلوه بالتحريق وَاحْتمل مَوْلَانَا الْوَالِد رَحمَه الله إِلَى الْقصر وَبِه ذماء لم يلبث بعد الفتكة العمرية إِلَّا أيسر من الْيَسِير وتخلف الْملك ينظر من الطّرف الحسير وينهض بالجناح الكسير وَقد عَاد جمع السَّلامَة إِلَى جمع التكسير إِلَّا أَن الله تَعَالَى تدارك هَذَا الْقطر الْغَرِيب أَن أقامنا مقَامه لوقته وحينه وَرفع عماد بِنَاء ملكه وَلم شعث دينه وَكَانَ جَمِيع من حضر المشهد من شرِيف النَّاس ومشروفهم وأعلامهم ولفيفهم قد جمعه ذَلِك الْمِيقَات وَحضر الْأَوْلِيَاء الثِّقَات فَلم تخْتَلف علينا كلمة وَلَا شذت مِنْهُم عَن بيعتنا نفس مسلمة وَلَا أخيف بري وَلَا حذر جري وَلَا فرى فري وَلَا وَقع لبس وَلَا استوحشت
أَن تَقول قدرت أَن تفعل أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَالْحَاصِل أَن فطم الْعَامَّة عَمَّا اعتادوه من بعض الجهالات وصرفهم عَمَّا مرنوا عَلَيْهِ من بعض الضلالات فِي غَايَة الصعوبة وَلَا يَتَيَسَّر ذَلِك إِلَّا لمن هيأه الله لَهُ من نَبِي مُرْسل أَو ولي كَامِل أَو إِمَام عَادل وَإِذا كَانَ صرف الْعَامَّة عَن هَذِه الْمفْسدَة الَّتِي اعتادوها ونشؤوا عَلَيْهَا جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن يُؤَدِّي إِلَى الْهَرج وَالْخلاف جزما أَو ظنا فَالْوَاجِب هُوَ تَركهم على مَا هم عَلَيْهِ لِأَن تَغْيِير الْمُنكر لَهُ شُرُوط مِنْهَا أَن لَا يُؤَدِّي إِلَى مُنكر أعظم كَمَا هُوَ مُقَرر فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع
قُلْنَا كل مَا قَرّرته فِي هَذَا السُّؤَال حق لَا محيد عَنهُ وَلَكِن نَحن لَا نقُول إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أيده الله يحمل الْعَامَّة على رفضها كرة ويلجئهم إِلَى تَركهَا بالمرة بل يسْلك مَعَهم فِي ذَلِك سَبِيل التدريج كَمَا سلكه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَحْرِيم الْخمر على الْعَرَب فَإِن الله تَعَالَى بعث مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْعرب من أعشق الْأُمَم للخمر وأشدهم بهَا ولوعا وَأَكْثَرهم لَهَا حبا حَتَّى كَانَت شَقِيقَة روحهم ومغناطيس أنسهم قد اتَّخذُوا لَهَا الْمجَالِس الحفيلة واختاروا لَهَا الْقَيْنَات الجميلة وضربوا عَلَيْهَا بالمعازف والدفوف وحكموا لَهَا على غَيرهَا من مألوفاتها بغاية الشفوف حَتَّى نسبوا بهَا فِي أشعارهم وتوجوا بهَا بَنَات أفكارهم وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يُؤثر عَن أمة من محبَّة الْخمر ومدحها مَا أثر عَن الْعَرَب فَلذَلِك لما انصرفت عناية الشَّرْع الْكَرِيم إِلَى تَحْرِيمهَا كَانَ ذَلِك على سَبِيل التدريج كَمَا هُوَ مَعْلُوم فِي الْكتاب وَالسّنة حَتَّى تمّ مُرَاد الله وَرَسُوله من الْعَرَب فرفضوها بِالْكُلِّيَّةِ وسماها الشَّارِع أم الْخَبَائِث زِيَادَة فِي التنفير مِنْهَا وَمَا حرمت آلَات اللَّهْو إِلَّا من أجلهَا ومبالغة فِي تَحْرِيمهَا إِذْ هِيَ وَسِيلَة إِلَيْهَا كَمَا حَقَّقَهُ الْغَزالِيّ رَحمَه الله فِي كتاب السماع من الْإِحْيَاء وَفِي تَفْسِير الخازن بعد سرده كَيْفيَّة التَّحْرِيم مَا نَصه وَالْحكمَة فِي وُقُوع التَّحْرِيم على هَذَا التَّرْتِيب أَن الله تَعَالَى علم أَن الْقَوْم كَانُوا قد ألفوا شرب الْخمر وَكَانَ انتفاعهم بذلك كثيرا فَعلم أَنه لَو مَنعهم من الْخمر دفْعَة وَاحِدَة لشق عَلَيْهِم فَلَا جرم اسْتعْمل هَذَا التدريج وَهَذَا الرِّفْق قَالَ أنس رَضِي الله عَنهُ حرمت الْخمر وَلم يكن للْعَرَب يَوْمئِذٍ عَيْش أعجب مِنْهَا وَمَا
الصفحة 197