كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

يناظر الْعلمَاء الجلة عَارِفًا بالْمَنْطق وأصول الدّين وَله حَظّ صَالح من علمي الْعَرَبيَّة والحساب وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ عَارِفًا بناسخه ومنسوخه حَافِظًا للْحَدِيث عَارِفًا بِرِجَالِهِ فصيح الْقَلَم كَاتبا بليغا حسن التوقيع شَاعِرًا أنْشد لَهُ صَاحب الجذوة اشعارا حَسَنَة من ذَلِك فِي الْحِكْمَة قَوْله
(وَإِذا تصدر للرياسة خامل ... جرت الْأُمُور على الطَّرِيق الأعوج)
وَقَالَ ابْن الْأَحْمَر كنت يَوْمًا جَالِسا مَعَه بمقعد ملكه من الْمَدِينَة الْبَيْضَاء بفاس فَدخل عَلَيْهِ رجل يتصلح فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ قَالَ بديهة
تراهم فِي ظواهرهم كراما ... ويخفون المكيدة والخداعا)
وللسلطان أبي عنان رَحمَه الله آثَار دينية من بِنَاء الْمدَارِس والزوايا وَغير ذَلِك ومدرسته العنانية بفاس مَشْهُورَة إِلَى الْآن وَمن مدارسه الْمدرسَة العجيبة بحومة بَاب حُسَيْن من سلا وَقد صَارَت الْيَوْم فندقا يعرف بفندق أسكور وَمِمَّا قَالَه أَبُو بكر بن جزي فِي بعض مَا أنشأه السُّلْطَان الْمَذْكُور من الزوايا قَوْله
(هَذَا مَحل الْفضل والإيثار ... والرفق بالسكان وَالزُّوَّارِ)
(دَار على الْإِحْسَان شيدت والتقى ... فجزاؤها الْحسنى وعقبى الدَّار)
(هِيَ ملْجأ للواردين ومورد ... لِابْنِ السَّبِيل وكل ركب ساري)
(آثَار مَوْلَانَا الْخَلِيفَة فَارس ... أكْرم بهَا فِي الْمجد من آثَار)
(لَا زَالَ مَنْصُور اللِّوَاء مظفرا ... ماضي العزائم سامي الْمِقْدَار)
(بنيت على يَد عبدهم وخديم ... بابهم الْعلي مُحَمَّد بن حدار)
(فِي عَام أَرْبَعَة وَخمسين انْقَضتْ ... من بعد سبعمئين فِي الْأَعْصَار)
وَقَالَ صَاحب الجذوة حَدثنِي شَيخنَا أَبُو رَاشد اليدري أَن السُّلْطَان أَبَا عنان هُوَ الَّذِي أحدث بفاس الْعلم الْأَزْرَق فِي الصومعة يَوْم الْجُمُعَة
وَقَالَ فِي مَوْضُوع آخر مِنْهَا حُكيَ أَن السُّلْطَان ابا عنان المريني صعد الصومعة يَعْنِي بالقرويين ليعتبر الْمَدِينَة وترتيبها ووقف على المنجانة وَمَا اتَّصل بهَا فَاسْتحْسن ذَلِك وأنعم على النَّاظر فِيهَا بمرتب وسع عَلَيْهِ فِيهِ
بِهِ ويدفنون عِنْده موتاهم فَلم يحل لنصارى مليلية بِنَاء العسات وَغَيرهَا إِلَّا بِمحل يشرف على تربة الْوَلِيّ الْمَذْكُور ويكشف عَنْهَا فراودهم أهل الرِّيف عَن التخلي عَن ذَلِك الْموضع وَالْبناء بِغَيْرِهِ فَأَبَوا وأصروا على الِامْتِنَاع وَرُبمَا لسعوهم بِمَا أحفظهم من الْكَلَام المؤلم على عَادَتهم فِي ذَلِك فَإِن هَذَا الإصبنيول مُنْذُ كَانَت لَهُ الْغَلَبَة فِي حَرْب تطاوين وَأهل الْمغرب مَعَه فِي عناء شَدِيد من كَثْرَة مَا يتعنت ويتجنى عَلَيْهِم وَيسْمعهُمْ من محفظات الْكَلَام وصريح الملام لَا سِيمَا أوباشهم ورعاعهم وتالله لقد سَمِعت أذناي من ذَلِك مَا يضيق لَهُ الصَّدْر وَلَا ينْطَلق بِهِ اللِّسَان وَإِذا رفعت الشكاية بهم إِلَى أكابرهم غمصوا الْحق وجادلوا بِالْبَاطِلِ هَذَا دأبهم وديدنهم وَإِلَى الله وَحده المشتكى وَله سُبْحَانَهُ العتبى حَتَّى يرضى وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِهِ فَلَمَّا سلكوا هَذَا المسلك وَنَحْوه مَعَ أهل الرِّيف أذاقوهم من بأسهم شَدِيد الْعقَاب وأليم الْعَذَاب كَمَا هُوَ مَعْلُوم فَلَمَّا احتل السُّلْطَان أيده الله بِحَضْرَة مراكش من هَذِه السفرة قدم عَلَيْهِ وَفد الإصبنيول يطْلبُونَ الْإِنْصَاف من أهل الرِّيف فِي هَذِه النَّازِلَة واستصحبوا مَعَهم سربا من الْحمام الطيار بالمكاتيب وَالْأَخْبَار وَدَار الْكَلَام بَينهم وَبَين السُّلْطَان فِي النَّازِلَة وَحكم فِيهَا من لم يكن ذَا بَصِيرَة بمعضلات النَّوَازِل من غافل أَو متغافل فَوَقع الْفَصْل على أَن يدْفع السُّلْطَان عَن دِمَاء قتلاهم أَرْبَعَة ملايين من الريال وَتمّ الصُّلْح على ذَلِك وَكَانُوا فِي تِلْكَ الْمدَّة كلما دَار بَينهم وَبَين السُّلْطَان كَلَام فِي الْقَضِيَّة أطاروا بِهِ الْحمام إِلَى أَرْبَاب دولتهم بمادريد وَالله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد
وَفِي آخرهذه السّنة كَانَت وَفَاة السُّلْطَان مولَايَ الْحسن بن مُحَمَّد رَحْمَة الله عَلَيْهِ ورضوانه فَإِنَّهُ خرج من مراكش فاتح ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة غازيا قبائل البربر الَّذين بجبال فازاز لَا سِيمَا آيت سخمان الَّذين غدروا بِأَصْحَابِهِ وَابْن عَمه حَسْبَمَا تقدم قَرِيبا وَكَانَ رَحمَه الله قد قدم من حَرَكَة تافيلالت وَهُوَ مَرِيض مَرضا خَفِيفا فِي الظَّاهِر وَلكنه مزمن فِي الْبَاطِن فَكَانَ يتَكَلَّف مَعَه الْخُرُوج للنَّاس وَينفذ القضايا وَيجْلس للوفود ويجيزهم وَيفْعل جَمِيع الْأُمُور المخزنية ثمَّ خرج من مراكش فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور على مَا بِهِ

الصفحة 206