كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
وانتسف واستباح وَأعظم النكاية وَرجع الْأَمِير يَعْقُوب إِلَى فاس واقتفى مَذْهَب أَخِيه الْأَمِير أبي بكر فِي فتح أَمْصَار الْمغرب وتدويخ أقطاره وَكَانَ مِمَّا أكْرمه الله بِهِ أَن فتح أمره باستنقاذ مَدِينَة سلا من أَيدي نَصَارَى الإصبنيول فَكَانَ لَهُ بهَا أثر جميل وَذكر خَالِد رَحمَه الله
اسْتِيلَاء نَصَارَى الإصبنيول على مَدِينَة سلا وإيقاع السُّلْطَان يَعْقُوب بهم وطردهم عَنْهَا
كَانَ يَعْقُوب بن عبد الله بن عبد الْحق قد اسْتَعْملهُ عَمه الْأَمِير أَبُو بكر بن عبد الْحق على مَدِينَة سلا لما ملكهَا كَمَا ذَكرْنَاهُ وَلما استرجعها الموحدون من يَده أَقَامَ يتقلب فِي جهاتها مترصدا للفرصة وإمكانها فِيهَا وَلما بُويِعَ عَمه السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق آسفته بعض الْأَحْوَال مِنْهُ فَذهب مغاضبا حَتَّى نزل عين غبولة وألطف الْحِيلَة فِي تملك رِبَاط الْفَتْح وسلا ليعتدهما ذَرِيعَة لما اسر فِي نَفسه من التوثب على الْأَمر فتمت لَهُ الْحِيلَة وَملك سلا وَركب عاملها أَبُو عبد الله بن يَعْلُو الْبَحْر فَارًّا إِلَى آزمور وَخلف أَمْوَاله وَحرمه فتملك يَعْقُوب بن عبد الله ذَلِك وَتمكن من الْبَلَد وجاهر بِالْخلْعِ وَصرف إِلَى مُنَازعَة عَمه السُّلْطَان يَعْقُوب وُجُوه الْعَزْم وتمكنت الوحشة بَين اليعقوبين
وداخل يَعْقُوب سلا تجار الْحَرْب من الإصبنيول فِي الْإِمْدَاد بِالسِّلَاحِ فتباروا فِي ذَلِك وَكَثُرت سفن المترددين مِنْهُم إِلَيْهَا حَتَّى كَثُرُوا أَهلهَا وَزَاد عَددهمْ فعزموا على الثورة بهَا واهتبلوا فِيهَا غرَّة عيد الْفطر من سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة عِنْد اشْتِغَال النَّاس بعيدهم وثاروا بسلا فِي الْيَوْم الثَّانِي من شَوَّال فوضعوا السَّيْف فِي أَهلهَا وَقتلُوا الرِّجَال وَسبوا الْحرم وانتهبوا الْأَمْوَال وَكَانَ الْحَادِث بهَا عَظِيما وضبطوا الْبَلَد وتحصن يَعْقُوب بن عبد الله برباط الْفَتْح
وطار الصَّرِيخ إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب بن عبد الْحق وَهُوَ يَوْمئِذٍ بِمَدِينَة تازا
وظيف الأعشار ترغيبا لَهُم فِيهَا فأهرعوا إِلَيْهَا من كل أَوب وانحدروا إِلَى مرْسَاها من كل صوب فعمرت فِي الْحِين وَاسْتمرّ الترخيص لَهُم فِيهَا مُدَّة من السنين ثمَّ رد أمرهَا إِلَى مَا عَلَيْهِ حَال المراسي من أَدَاء الصاكة وَغَيرهَا من اللوازم وَهِي الْآن بِهَذَا الْحَال وَالله تَعَالَى أعلم
هجوم الفرنسيس على ثغر سلا والعرائش ورجوعه عَنْهُمَا بالخيبة
قد قدمنَا مَا كَانَ للسُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله رَحمَه الله من الولوع بِأَمْر الْبَحْر وَالْجهَاد فِيهِ فَلم تزل قراصينه تَتَرَدَّد فِي أكناف الْبَحْر وتجوس خلال ثغور الْكفْر فَتقْتل وتأسر وتغنم وَتَسْبِي إِلَى أَن ضَاقَ بهم رحب الفضاء وَكَاد يستأصل جمهورهم حكم الْقَضَاء فَمنهمْ من فزع إِلَى طلب المهادنة وَحسن الْجوَار وَمِنْهُم من كَذبته نَفسه فتطاول إِلَى الْأَخْذ بالثأر
وَمن هَذَا الْقسم الثَّانِي جنس الفرنسيس فَإِن قراصين السُّلْطَان رَحمَه الله كَانَت قد غنمت مِنْهُ مركبا ساقته إِلَى مرسى العرائش وغنمت مِنْهُ غير ذَلِك فِي مَرَّات مُتعَدِّدَة فَدَعَاهُ ذَلِك إِلَى أَن هجم على ثغر سلا أَوَاخِر سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَة وَألف قَالَ الغزال فِي رحلته رمى الفرنسيس بمرسى سلا من الأنفاض والبنب مَا ظن أَنه يحصل بِهِ على طائل فَأُجِيب مِنْهَا بِضعْف ذَلِك فَلم يلبث إلاوأجفانه هاربة تقفو أواخرها الْأَوَائِل وفر هَارِبا مهزوما سَاقِط الألوية مذموما اه وَرَأَيْت بِخَط الْفَقِيه الْعَلامَة أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمَكِّيّ السدراتي السلاوي رَحمَه الله مَا صورته هجم الفرنسيس على مَدِينَة سلا يَوْم الْجُمُعَة الْحَادِي عشر من ذِي الْحجَّة متم سنة ثَمَان وَسبعين وَمِائَة وَألف فأقاموا يَوْم الْجُمُعَة وَيَوْم السبت بِظَاهِر الْبَحْر لم يَفْعَلُوا شَيْئا وَفِي يَوْم الْأَحَد تقدّمت سفنهم فرموا من البنب مائَة وَسبعا وَسبعين وهدمت الدّور وفر النِّسَاء وَالصبيان خَارج الْبَلَد وَلم يبْق بهَا إِلَّا الْقَلِيل وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وَفِي
موطنين بِهِ إِلَى الْآن وَأما الْمهْدي فَإِنَّهُ ذهب إِلَى السوس وانْتهى إِلَى آيت باعمران من ولتيتة فَنزل على مرابطها أبي عبد الله مُحَمَّد آعجلي الباعمراني وَاسْتمرّ عِنْده ثَلَاث سِنِين وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ ثمَّ بعث من شفع لَهُ عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقبل السُّلْطَان شَفَاعَته وَجَاء الْمهْدي فِي قَيده إِلَى أَن دخل على السُّلْطَان بمراكش وَبكى أَمَامه وتضرع فسامحه السُّلْطَان ثمَّ بَعثه إِلَى مكناسة فَاجْتمع بأولاده وَبعد مُدَّة يسيرَة ولاه السُّلْطَان على إخوانه
قَالَ أكنسوس عاملهم بالإساءة فَعَادَت محبتهم لَهُ عَدَاوَة وضجوا إِلَى السُّلْطَان مِنْهُ فَعَزله ثمَّ حج الْمهْدي بِإِذن السُّلْطَان وَرجع فولاه أَيْضا فَلم يقبلوه ثمَّ سجن ثمَّ سرح وتقلبت بِهِ الْأَحْوَال وتأخرت وَفَاته إِلَى أَوَائِل شَوَّال من سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فِي أول دولة سُلْطَان الْعَصْر وَإِمَام النَّصْر أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمولى الْحسن بن مُحَمَّد رَضِي الله عَنهُ وَلما تمّ فتح الزاوية الْمَذْكُورَة قَالَ شعراء الْعَصْر فِي ذَلِك فَمنهمْ الْفَقِيه الأديب أَبُو عبد الله أكنسوس قَالَ
(بشائر لَا تحيط بهَا الشُّرُوح ... كَأَن سميعها فنن مروح)
(سقى ربع البشير بهَا غمام ... يباكرها هتون أَو يروح)
(تفديه المحافل وَهُوَ يشدو ... فتوح فِي مضمنها فتوح)
(وَتَأمل أَن تقبله الغواني ... تذيل لَهُ المباسم أَو تبيح)
(بشائر كَاد يسْمعهَا دَفِين ... ويسري فِي الجماد بِهن روح)
(شفى الْمولى الْمُؤَيد كل صدر ... بِهِ من قبل وقعتها جروح)
(وَأدْركَ ثار عصبته وأضحى ... لعزة قدره شرف صَرِيح)
(لقد حسم الْفساد بِكُل أَرض ... فَسَاد بِهِ لنا الدّين السميح)
(وزر على زُرَارَة كل خزي ... تشق لَهُ المجاسد إِذْ تنوح)
(وَقد كَانَت تصر على ازورار ... وَكَانَت لَا ينهنهها قَبِيح)
(وَمن كَانَت مراكبه جماحا ... فسحقا حِين تصرعه الجموح)
(أتيح لَهُم لحينهم جهول ... غوى للضلال لَهُ جنوح)
الصفحة 21