كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
كَأَنَّهُ نَائِب عَنهُ لَا غير وَأرْسل بكتابه مَعَ ابْن أَخِيه عَامر بن إِدْرِيس بن عبد لحق فِي جمَاعَة من وُجُوه دولته فَأكْرم الْمُسْتَنْصر وفادتهم ثمَّ لما فتح السُّلْطَان يَعْقُوب مراكش وَاسْتولى عَلَيْهَا بعث إِلَيْهِ الْمُسْتَنْصر بهدية فِيهَا من أَصْنَاف الْخَيل الْجِيَاد وَالسِّلَاح وَالثيَاب الرفيعة مَا اخْتَارَهُ وَاسْتَحْسنهُ وَبعث بذلك مَعَ جمَاعَة من وُجُوه دولته أَيْضا وَفِيهِمْ الْكَاتِب أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْكِنَانِي فتلطف الْكَاتِب الْمَذْكُور فِي ذكر الْمُسْتَنْصر على مِنْبَر مراكش حَتَّى تمّ لَهُ ذَلِك بِمحضر وَفد الْمُوَحِّدين فَعظم سرورهم وانقلبوا إِلَى صَاحبهمْ بالْخبر واتصلت الْمَوَدَّة والمهاداة بَين الْمُسْتَنْصر وَالسُّلْطَان يَعْقُوب سَائِر أيامهم وَلما هلك الْمُسْتَنْصر وبويع ابْنه أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى الْمَدْعُو بالواثق اقتفى سنَن أَبِيه فِي ذَلِك فَبعث إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب بهدية حافلة مَعَ قَاضِي بجاية أبي الْعَبَّاس الغماري سنة سبع وَسبعين وسِتمِائَة فَعظم موقعها من السُّلْطَان يَعْقُوب وَكَانَ لأبي الْعَبَّاس الغماري هَذَا بالمغرب ذكر تحدث النَّاس بِهِ ذهرا وَقطع السُّلْطَان يَعْقُوب لأوّل أمره الدعْوَة إِلَى الحفصيين كَمَا قُلْنَا وَالله تَعَالَى أعلم
عقد السُّلْطَان يَعْقُوب ولَايَة الْعَهْد لِابْنِهِ أبي مَالك بسلا وَمَا نَشأ عَن ذَلِك من خُرُوج قرَابَته عَلَيْهِ
كَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب حِين خرج من مراكش بعد فتحهَا قَاصِدا حَضْرَة فاس دَار ملك بني مرين اجتاز بِمَدِينَة سلا فأراح بهَا أَيَّامًا فطرقه مرض وعك مِنْهُ وعكا شَدِيدا فَلَمَّا أبل من مَرضه جمع قومه وَعقد الْعَهْد لأكبر أَوْلَاده أبي مَالك عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب لما علم من أَهْلِيَّته لذَلِك وَأخذ لَهُ الْبيعَة عليم جَمِيعًا فأعطوها طواعية وَعز ذَلِك على الْقَرَابَة من بني عبد الْحق وهم أَوْلَاد سَوط النِّسَاء بَنو إِدْرِيس بن عبد الْحق وَبَنُو عبد الله بن عبد الْحق وَبَنُو رحو بن عبد الْحق وَإِنَّمَا قيل لَهُم أَوْلَاد سَوط النِّسَاء لِأَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة من بني عبد الْحق كَانُوا أشقاء أمّهم اسْمهَا سَوط النِّسَاء فَلَمَّا بَايع السُّلْطَان
قرَابَته وَأهل بَيته فأودعهم السجْن ثمَّ سَار إِلَى طنجة فَدَخلَهَا وَنهب دَار عبد الصَّادِق الْمَذْكُور وَنقل إخوانه بأولادهم إِلَى المهدية وَولى عَلَيْهِم مُحَمَّد بن عبد الْملك من بَيتهمْ وَلم يتْرك بطنجة من أهل الرِّيف إِلَّا أهل الْمُرُوءَة وَالصَّلَاح وَأنزل مَعَهم ألفا وَخَمْسمِائة من عبيد المهدية بعددهم بِحَيْثُ لَا يطمعون فِي قيام وَلَا يحدثُونَ أنفسهم بثورة وَوَقع بِخَط الْفَقِيه أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد السدراتي أَن انْتِقَال أهل الرِّيف إِلَى المهدية كَانَ بعد هَذَا بِنَحْوِ أَربع سِنِين وَالله أعلم
مقتل عبد الْحق فنيش السلاوي ونكبة أهل بَيته وَالسَّبَب فِي ذَلِك
قد قدمنَا فِي آخر دولة السُّلْطَان الْمولى عبد الله مَا كَانَ بحواضر الْمغرب وبواديه من الِاضْطِرَاب فسما بعض القواد والعمال بالأمصار إِلَى مرتبه الِاسْتِقْلَال وطرحوا طَاعَة السُّلْطَان فِي زَاوِيَة الإهمال فَمنهمْ صَاحب سلا عبد الْحق بن عبد الْعَزِيز فنيش كَانَ قد استحوذ على مَدِينَة سلا وأعمالها واستبد بأمرها بِمَا كَانَ لَهُ من الْعَشِيرَة والعصبية بهَا وَلما اجتاز سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله من مراكش إِلَى الْقصر أَيَّام وَالِده أغلق عبد الْحق هَذَا أَبْوَاب سلا فِي وَجهه وَلم يحفل بِهِ ذَهَابًا وايابا حَسْبَمَا مر
ثمَّ لما ولى الله السُّلْطَان أَمر الْمُسلمين أعرض عَمَّا أسلفه عبد الْحق من جريرته وأبقاه فِي مدينته على رياسته فاستمر على ذَلِك بُرْهَة من الدَّهْر وَكَانَ فظا غليظا فَقتل رجل من أَعْيَان سلا قيل كَانَ هَذَا الرجل من قرَابَته وَقيل كَانَ من أَوْلَاد زنيبير فَرفع أولياؤه أَمرهم إِلَى السُّلْطَان بمكناسة وَحضر عبد الْحق مَعَهم وَثَبت أَن قَتله للرجل كَانَ على وَجه الظُّلم فحرك ذَلِك من السُّلْطَان مَا كَانَ كامنا فِي صَدره عَلَيْهِ فَقبض عَلَيْهِ وَدفعه إِلَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول ليتولوا قَتله بِأَيْدِيهِم فجبنوا عَنهُ لما كَانَ لَهُ فِي قُلُوبهم من الهيبة فَأمر
إِلَيْهَا الْأَعْنَاق وتشوفت إِلَيْهَا من كل جَانب الْعُيُون والأحداق فأعرضنا عَن الْكل صفحا وطوينا عَنهُ الجوانب كشحا مُقْبِلين إِلَى عتبَة بَاب سيدنَا نَصره الله وسدته داخلين تَحت طَاعَته ملتزمين لخدمته متوافقين مَعَ الْقَبَائِل والأمصار وَأهل الرَّأْي والاستبصار لعلمنا أَن سيدنَا نَصره الله المتأهل فِي هَذَا الْأَمر العريق الجدير بِالْإِمَامَةِ الْحقيق كَيفَ وَقد ورثهَا كَابِرًا عَن كَابر وإليهم انْتَهَت المآثر والمفاخر فنطلب من سيدنَا نَصره الله أَن يلْتَزم لنا بفضله من هَذِه الْبيعَة الْقبُول مستشفعين بجاه جده الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الطيبين وصحابته المنتخبين وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين اه
وَلما وقف السُّلْطَان رَحمَه الله على هَذَا الْكَلَام قبل بيعتهم والتزمها وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِ عَمه الْمولى عَليّ بن سُلَيْمَان وأضاف إِلَيْهِ كَتِيبَة من الْجند من أَعْيَان الودايا وَالْعَبِيد وَوجه الْجَمِيع مَعَ أهل تلمسان بعد إكرامهم وَتَمام الْإِحْسَان إِلَيْهِم وَكتب إِلَى عَامله الْقَائِد إِدْرِيس يستوصيه بِالْجَمِيعِ خيرا وَيكون بَصِيرَة عَلَيْهِم وأشركه فِي النّظر والرأي مَعَ الْمولى عَليّ بل الِاعْتِمَاد فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ وَقد وقفت على كتاب الْوَزير أبي عبد الله بن إِدْرِيس بِخَط يَده للقائد الْمَذْكُور فِي هَذِه الْقَضِيَّة يَقُول فِيهِ مَا نَصه الْحَمد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله محبنا وخال سيدنَا الأرضى السَّيِّد إِدْرِيس بن حمان الجراري سَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبَرَكَاته عَن خير سيدنَا أيده الله وَبعد فقد وصلنا كتابك صُحْبَة أَعْيَان تلمسان وقبائل أحوازها فوقفنا مَعَهم كل الْوُقُوف وبذلنا المجهود فَوق الطَّاقَة وقبلهم مَوْلَانَا وقابلهم بِالْإِحْسَانِ وَالْإِكْرَام كَمَا هُوَ شَأْنه ذَهَابًا وإيابا وهاهم وجههم مَوْلَانَا مكرمين وَرشح ابْن عَمه مولَايَ عليا للخلافة عَلَيْهِم لما يعلم من عقله ودرايته وسياسته وَأَنه ذُو نفس أبيَّة لكَون تِلْكَ النواحي لَا يصلح لَهَا إِلَّا من اتّصف بِهَذِهِ الْأَوْصَاف ليميزوا حَالَة السَّاعَة مَعَ مَا كَانُوا فِيهِ وكما رشح مَوْلَانَا ابْن عَمه الْمَذْكُور رشحك لتَكون وَاسِطَة بَينهم وَبَينه لكَون الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة مَوْجُودَة فِيك فَكُن عِنْد الظَّن بك وَإِيَّاك والطمع وازهدوا فِيمَا فِي أَيدي
الصفحة 29