كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
وارتحل يُرِيد تلمسان
وَلما انْتهى إِلَى أنكاد قدمت عَلَيْهِ رسل ابْن الْأَحْمَر ووفد أهل الأندلس يستصرخونه على الْعَدو ويسألونه الْإِعَانَة والنصر ويخبرونه بِأَنَّهُ قد كلب عَلَيْهِم وشره لالتهام بِلَادهمْ فتحركت همته رَحمَه الله للْجِهَاد وَنصر الْمُسلمين وإغاثة الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْهُم وَنظر فِي صرف الشواغل عَن ذَلِك وجنح للسلم مَعَ يغمراسن وعزم عَلَيْهَا وَاسْتَشَارَ الْمَلأ من أَشْيَاخ الْعَرَب وَبني مرين فِي ذَلِك فصوبوا رَأْيه لما كَانُوا عَلَيْهِ أَيْضا من إِيثَار الْجِهَاد ومحبته فَبعث السُّلْطَان يَعْقُوب جمَاعَة من أَشْيَاخ الْقَبَائِل إِلَى يغمراسن يَدعُونَهُ إِلَى الصُّلْح واجتماع الْكَلِمَة وَقَالَ لَهُم فِي جملَة قَوْله إِن الصُّلْح خير كُله فَإِن جنح يغمراسن إِلَيْهِ وأناب فَذَاك وَإِلَّا فَأَسْرعُوا إِلَيّ بالْخبر فَسَار الْأَشْيَاخ إِلَى يغمراسن فوافوه بِظَاهِر تلمسان وَقد أَخذ أهبته واستعد للقاء وحشد قبائل زناتة المجاورين لَهُ فِي تِلْكَ الْبِلَاد من بني عبد الواد وَبني رَاشد وأحلافهم ومغراوة من عرب بني زغبة فبلغوه الرسَالَة وعرضوا عَلَيْهِ مقَالَة السُّلْطَان يَعْقُوب فَأبى واستكبر وصم عَن سَماع قَوْلهم وموعظتهم وَقَالَ أبعد مقتل وَلَدي أصالحه وَالله لَا كَانَ ذَلِك أبدا حَتَّى أثأر بِهِ وأذيق أهل الْمغرب النكال من أَجله فَرَجَعت الرُّسُل إِلَى السُّلْطَان يَعْقُوب بالْخبر وتزاحف الْفَرِيقَانِ فَكَانَ اللِّقَاء على وَادي ايسلي من بسيط وَجدّة وعبأ السُّلْطَان يَعْقُوب كتائبه ورتب مصافه وَجعل ابْنه عبد الْوَاحِد فِي الميمنة وَابْنه يُوسُف فِي الميسرة ووقف هُوَ فِي الْقلب ودارت بَينهم رحى الْحَرْب وركدت مَلِيًّا وَهلك فِي الحومة أَبُو عنان فَارس بن يغمراسن بن زيان فِي جمَاعَة من بني عبد الواد وَهلك عَامَّة عَسْكَر الفرنج الَّذين كَانُوا مَعَهم لثباتهم بثبات يغمراسن فطحنتهم رحى الْحَرْب وتقبض على قائدهم برنيس وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ وَنَجَا يغمراسن فِي فَلهُ حاميا لَهُم ومدافعا عَنْهُم من خَلفهم وَمر فِي هزيمته بفساطيطه فأضرمها نَارا تفاديا من حصرة اسْتِيلَاء الْعَدو عَلَيْهَا وانتهبت بَنو مرين بَاقِي مُعَسْكَره واستبيحت حرمه وارتحل السُّلْطَان يَعْقُوب من الْغَد فِي أَثَره حَتَّى إِذا انْتهى إِلَى وَجدّة وقف عَلَيْهَا فَأمر بهدمها فتسارعت أَيدي الْجند إِلَيْهَا وَجعلُوا عاليها
باشدورا إِلَى السُّلْطَان مصطفى العثماني وأصحبه هَدِيَّة نفيسة مُكَافَأَة لَهُ على هديته الَّتِي كَانَ أرسلها مَعَ السَّيِّد الطَّاهِر بن عبد السَّلَام السلاوي وَالسَّيِّد الطَّاهِر بناني الرباطي حَسْبَمَا مر
ثمَّ لما دخلت سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف قدم الْحَاج عبد الْكَرِيم الْمَذْكُور من عِنْد السُّلْطَان الْمَذْكُور وَمَعَهُ هَدِيَّة عَظِيمَة أعظم من الأولى وَهِي مركب موسوق بالمدافع والمهاريس النحاسية وإقامتها وَإِقَامَة المراكب القرصانية من صوار ومخاطيف وقلوع وقمن وحبال وبراميل وَغير ذَلِك من آلَات الْبَحْر وفيهَا ثَلَاثُونَ من مهرَة المعلمين الَّذين لَهُم الْمعرفَة بأفراع المدافع والمهاريس والكور والبنب وبصناعة المراكب القرصاينة وَفِيهِمْ معلم مجيد فِي الرَّمْي بالمهراس إِلَى الْغَايَة فنزلوا بمرسى العرائش
قَالَ صَاحب الْبُسْتَان وَكنت يَوْمئِذٍ واليا بهَا فورد أَمر السُّلْطَان بتوجيه المعلمين إِلَى فاس يُقِيمُونَ بهَا حَتَّى يقدم السُّلْطَان من مراكش إِلَى مكناسة فيجتمعون بِهِ هُنَالك وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى مكناسة وحضروا عِنْده فاوضهم فِي الْخدمَة وَأَرَادَ أَن يحيي آثَار دَار الصَّنْعَة الَّتِي كَانَت بسلا تصنع بهَا المراكب الجهادية على عهد الْمُوَحِّدين وَبني مرين فَقَالُوا نحتاج أَن تبني لنا دَارا على هَيْئَة كَذَا وَمن نعتها كَذَا وَكَذَا ورسموا لَهُ شكلها فِي قرطاس فَرَأى أَن أمرهَا لَا يتم فِي عشر سِنِين وَلَا أَكثر وَلَا يَكْفِي فِي بنائها مَال فَأَعْرض عَن ذَلِك وَبعث معلمي البنب إِلَى تطاوين فَكَانَ أحدهم يفرغ البنبة من قنطارين وَبعث معلمي المراكب إِلَى سلا فأنشؤوا فِيهَا ثَلَاث شكظريات وَبعث معلم الرَّمْي إِلَى رِبَاط الْفَتْح فَكَانَ يعلم بهَا الطبجية من أهل سلا والرباط وَتخرج على يَدَيْهِ نجباء وَمن ثمَّ توارث أهل العدوتين هَذِه الصِّنَاعَة مُدَّة إِلَى أَن لم يبْق بهَا الْيَوْم إِلَّا الِاسْم ورد أَصْحَاب المدافع والمهاريس إِلَى فاس فأقاموا بهَا إِلَى أَن توفوا هُنَالك رَحِمهم الله
السَّلَام البوعناني فولاه خطة الْحِسْبَة بتلمسان وَبعث من الكسي والرايات والأعلام والمدافع والمهاريس والبارود والرصاص شَيْئا كثيرا لَكِن لم يكن إِلَّا مَا أَرَادَهُ الله تَعَالَى فافترقت كلمة الْعَرَب الَّذين هُنَالك لضعف إِيمَانهم وَقلة همتهم فجلهم مَال إِلَى الدُّخُول فِي حزب النَّصَارَى عِنْدَمَا استولوا على مَدِينَة وهران فِي هَذِه الْأَيَّام ثمَّ سرى ذَلِك الِاخْتِلَاف فِي قواد جَيش السُّلْطَان فتنافسوا وتحاسدوا وَكثر القيل والقال مِنْهُم على السُّلْطَان ثمَّ ختموا عَمَلهم بانتهاب أثاث الكرغلية وتقاعدهم عَلَيْهِ ثمَّ بانتهاب مَال الزمالة والدوائر وماشيتهم فِي جوَار الشريف سَيِّدي الْحَاج الْعَرَبِيّ بن عَليّ الوزاني وَفَسَد الْعَمَل وخاب الأمل فَحِينَئِذٍ رأى السُّلْطَان رَحمَه الله استرجاع تِلْكَ الجيوش الَّتِي لم يبْق طمع فِي صَلَاحهَا بعد أَن أَمر بِالْقَبْضِ على الْقَائِد إِدْرِيس لكَونه سعى بِهِ عِنْده وَأَنه شَارك فِي نهب الكرغلية والزمالة والدوائر وتقاعد على النفيس من أثاثهم فَرَجَعت الْحلَّة وَكَانَ رُجُوعهَا فِي آخر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَفِي هَذِه السّنة منتصف جُمَادَى الثَّانِيَة مِنْهَا حدثت زَلْزَلَة بقرية من قرى تلمسان تسمى البليدة فَجعلت عاليها سافلها وَهلك أَهلهَا وَالْأَمر لله كَيفَ شَاءَ فعل
خُرُوج جَيش الودايا على السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن وَالسَّبَب فِي ذَلِك
كَانَ خُرُوج جَيش الودايا على السُّلْطَان الْمولى عبد الرَّحْمَن رَحمَه الله فِي الْمحرم فاتح سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الطَّاهِر بن مَسْعُود المغفري الحساني والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر الغفري الْعقيلِيّ والحاج مُحَمَّد بن فَرِحُونَ الجراري كَانُوا من كبار قواد هَذَا الْجَيْش وأعيانه وَكَانَ السُّلْطَان رَحمَه الله يَبْعَثهُم فِي الْمُهِمَّات ويستكفي بهم فِي الأقطار النائية والجهات وَكَانُوا هم يظهرون للسُّلْطَان الطَّاعَة وهم فِي الْبَاطِن منحرفون عَنهُ بِسَبَب أَن الدَّالَّة الَّتِي كَانُوا يدلون بهَا على السُّلْطَان الْمولى
الصفحة 32