كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

وَأقَام السُّلْطَان يَعْقُوب على حِصَار سجلماسة حولا كَامِلا وَكَانَ سفهاؤها يصعدون فَوق الأسوار ويعلنون بالسب وَالْفُحْش إِلَى أَن هتك المنجنيق ذَات يَوْم طَائِفَة من سورها فَدخلت من هُنَالك عنْوَة بِالسَّيْفِ وعاث الْجند فِي أَهلهَا فَقتلُوا الْمُقَاتلَة وَسبوا الذُّرِّيَّة وأتى الْقَتْل على عاملها عبد الْملك بن حنينة وَمن كَانَ بهَا من أَشْيَاخ بني عبد الواد وعرب المنبات وَكَانَ فتحهَا آخر صفر وَقيل يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث ربيع الأول سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة وكمل بِفَتْحِهَا للسُّلْطَان يَعْقُوب فتح بِلَاد الْمغرب وتمشت طَاعَته فِي أقطاره فَلم يبْق فِيهِ أهل حصن يدينون بِغَيْر دَعوته وَلَا جمَاعَة تتحيز إِلَى غير فئته
أَخْبَار السُّلْطَان الْمَنْصُور بِاللَّه يَعْقُوب بن عبد الْحق المريني فِي الْجِهَاد وَمَا كَانَ لَهُ بالأندلس من الذّكر الْجَمِيل وَالْفَخْر الجزيل رَحمَه الله

قد تقدم لنا مَا كَانَ لِلْعَدو الْكَافِر على الْمُسلمين فِي وقْعَة الْعقَاب من الظُّهُور وَالْغَلَبَة وَأَن تِلْكَ الْوَقْعَة كَانَت سَبَب ضعف الْمُسلمين بالمغرب والأندلس واستيلاء الْعَدو الْكَافِر على جلّ ثغورها وحصونها وَلما ضعف أَمر الْمُوَحِّدين بالمغرب استبد السَّادة مِنْهُم بالأندلس وصاروا إِلَى المنافسة فِيمَا بَينهم واستظهار بَعضهم على بعض بالطاغية وَإِسْلَام حصون الْمُسلمين إِلَيْهِ فِي سَبِيل تِلْكَ الْفِتْنَة فمشت رجالات الأندلس بَعضهم إِلَى بعض وَأَجْمعُوا على إِخْرَاج الْمُوَحِّدين من أَرضهم فثاروا بهم لوقت وَاحِد وأخرجوهم وَتَوَلَّى كبر ذَلِك مُحَمَّد بن يُوسُف بن هود الجذامي ثمَّ من بعده مُحَمَّد بن يُوسُف بن نصر الْمَعْرُوف بِابْن الْأَحْمَر وَنَازع ابْن هود الرياسة بالأندلس وَلَا الشهيرة الَّتِي مِنْهَا قرطبة وإشبيلية قاعدتا أَرض الأندلس كَانَ كل وَاحِد من هذَيْن الثائرين يتَقرَّب إِلَى الطاغية بِمَا غلب عَلَيْهِ من ذَلِك ليعينه على صَاحبه
نفوس أكابرهم وأشرافهم ثمَّ توَسط بَين عامتهم وَكَبِيرهمْ القسيسون وسهلوا عَلَيْهِم الْأَمر حَتَّى انقادوا وَبعث كَبِيرهمْ إِلَى السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله يطْلب مِنْهُ أَن يكف عَن الْقِتَال ويؤجله ثَلَاثَة أَيَّام ليدفع لَهُ الْبَلَد فَأَجَابَهُ السُّلْطَان إِلَى ذَلِك وَاشْترط عَلَيْهِ أَن لَا يخرجُوا إِلَّا فِي ثِيَابهمْ الَّتِي على ظُهُورهمْ وَلَا يحملوا مَعَهم شَيْئا غَيرهَا فامتثلوا
قَالَ لويز حَتَّى أَن عسكريا مِنْهُم حمل مَعَه كسْوَة أُخْرَى لم تسمح بهَا نَفسه فرآها كَبِيرهمْ وَهُوَ يُرِيد أَن يصعد إِلَى الْمركب فانتزعها مِنْهُ وَأَلْقَاهَا فِي الْبَحْر وَلما أيسوا من حمل شَيْء مَعَهم أحرقوا الأثاث والفراش وعرقبوا الْخَيل وَقتلُوا الْمَاشِيَة وكسروا الْأَوَانِي وَالْعدة وفلسوا أَكثر من مائَة مدفع وَآخر الْأَمر أَنهم دفنُوا مينات البارود فِي حوماتها كل مينا فِيهَا أَكثر من أَرْبَعِينَ برميلا وَتركُوا رجلا حدادا اسْمه بطروس فَيُقَال إِنَّه الَّذِي أوقد المينا عِنْد دُخُول الْمُسلمين إِلَيْهَا فَهَلَك فِيهَا نَحْو خَمْسَة آلَاف وتهدم السُّور الجنوبي مِنْهَا
وَلما وصلوا إِلَى أشبونة أسكنهم طاغيتهم ببلدة يُقَال لَهَا بلين فَأَصَابَهُمْ الوخم وَهلك مِنْهُم أَكثر من ثَلَاثمِائَة نفس ثمَّ انتقلوا إِلَى بِلَاد البرازيل فبنوا هُنَالك مَدِينَة سَموهَا مازكان الثَّانِيَة باسم الجديدة هَذَا ملخص مَا ذكره لويز وَمن خطّ الْفَقِيه الْعَلامَة أبي الْعَبَّاس أَحْمد السدراتي أَن فتح الجديدة كَانَ صَبِيحَة يَوْم السبت الثَّانِي من ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف وَوَافَقَ ذَلِك الْيَوْم الثَّامِن وَالْعِشْرين من فبراير العجمي وَهُوَ ثَالِث أَيَّام الحسوم اه وَكَانَ مِمَّن شهد هَذَا الْفَتْح الْمعلم الْحَاج سُلَيْمَان التركي الْمجِيد فِي صناعَة الرَّمْي بالمهراس فأبدأ وَأعَاد وحضرها أَيْضا جمَاعَة من فنانشة سلا فأبلوا بلَاء حسنا وعمرها السُّلْطَان بِأَهْل دكالة إِذْ هِيَ فِي وسط أَرضهم وأضاف إِلَيْهِم حِصَّة من عَسْكَر اليكشارية وَأَعْقَابهمْ بهَا لهَذَا الْعَهْد وَالله أعلم
بَاب الجيسة وبستيون بَاب الْفتُوح ودام الْحصار أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَالْحَرب لَا تَنْقَطِع فِي كل وَقت وَكَانَ الودايا يرْمونَ أَيْضا بالكور والبنب وابلى بنوحسن فِي تِلْكَ الْأَيَّام الْبلَاء الْحسن ثمَّ إِن السُّلْطَان عزم على الْبناء عَلَيْهِم وجلب اللواحين فشرعوا فِي الْعَمَل وسئم الودايا الْحَرْب وملوها فأذعنوا إِلَى الصُّلْح وسعى فِي الوساطة بَينهم وَبَين السُّلْطَان الْأمين الْحَاج الطَّالِب ابْن جلون الفاسي فَأَمنَهُمْ السُّلْطَان على شَرط الْخُرُوج من فاس الْجَدِيد فأذعنوا ثمَّ بعثوا شفاعاتهم بالمشايخ وَالصبيان والألواح على رؤوسها وَمَعَهُمْ سلطانهم ابْن الطّيب فسامح رَحمَه الله الْجَمِيع وَقَالَ لَهُم فِي جملَة مَا قَالَ الْحَمد لله إِذْ لم أغلبكم وَلم تغلبوني لِأَنِّي لَو غلبتكم لذبحت هَذِه الجيوش أَوْلَادكُم وَلم أقدر أَن أردهَا عَنْكُم وَلَو غلبتموني لفعلتم كل مَا تقدرون عَلَيْهِ فَهَذَا من لطف الله بِي وبكم
قلت وَهَذَا كَلَام دَال على وفور عقل السُّلْطَان رَحمَه الله وَكَمَال شفقته وَرَحمته ثمَّ لما عزم السُّلْطَان على النهوض إِلَى مكناسة ولى على جَيش الودايا كُله الْقَائِد إِدْرِيس بن حمان الجراري وَذَلِكَ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف ثمَّ نَهَضَ إِلَى مكناسة فاحتل بهَا وَلما حضر عيد الْفطر قدمت الْوُفُود على السُّلْطَان بمكناسة واستقامت الْأَحْوَال وَكتب رَحمَه الله إِلَى الْقَائِد إِدْرِيس أَن يحضر الْعِيد فِي جمَاعَة وافرة من إخوانه نَحْو الْخَمْسمِائَةِ فَحَضَرُوا ودخلوا على السُّلْطَان ذَات عَشِيَّة بالمشور فوبخهم حَتَّى ظن النَّاس أَنه يقبض عَلَيْهِم ثمَّ سرحهم فعادوا إِلَى فاس الْجَدِيد وَلما عزم السُّلْطَان رَحمَه الله على النهوض إِلَى مراكش قدم أَولا فاسا وَنزل خَارج الْبَلَد وَنظر فِي شَأْنه وشأن الْجَيْش والرعية ثمَّ ارتحل يُرِيد مراكش فَلَمَّا انْفَصل عَن فاس بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ كتب إِلَى الْقَائِد إِدْرِيس يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ بالطاهر بن مَسْعُود والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر يذهبان مَعَه إِلَى مراكش بِقصد الْخدمَة بهَا مَعَ وَلَده وخليفته سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن فذهبا على فرسيهما مسرحين إِلَّا أَنَّهُمَا كَانَا حذرين من السُّلْطَان لما قدما من الْفِعْل الشنيع الَّذِي كَانَ سَبَب هَذِه الْفِتْنَة الْعَظِيمَة فَقدما مراكش وترتبا فِي

الصفحة 37