كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
وَالْأَمر لله وَحده وانقرض أَمر ابْن هود عَن أمد قريب واستمرت دولة ابْن الْأَحْمَر فِي عقبه إِلَى آخر الْمِائَة التَّاسِعَة وَلما استتب أَمر ابْن الْأَحْمَر بالأندلس عقد السّلم مَعَ الطاغية على أَن ينزل لَهُ عَن جَمِيع بسائط عرب الأندلس فَنزل لَهُ عَنْهَا أجمع ولجأ بِالْمُسْلِمين إِلَى سيف الْبَحْر معتصمين بأوعاره ومتشبثين بمعاقله وحصونه وَاخْتَارَ ابْن الْأَحْمَر لنزوله مَدِينَة غرناطة واتخذها كرْسِي مَمْلَكَته وابتنى بهَا لسكناه حصن الْحَمْرَاء
وَكَانَ ابْن الْأَحْمَر هَذَا يدعى بالشيخ وَكَانَ قد عهد إِلَى وَلَده الْقَائِم من بعده مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالفقيه لانتحاله طلب الْعلم فِي صغره وأوصاه إِذا نابه أَمر من الْعَدو أَو وصل إِلَيْهِ مَكْرُوه أَن يستنصر عَلَيْهِ ببني مرين ويدرا بهم فِي نَحره ويجعلهم وقاية بَين الْعَدو وَبَين الْمُسلمين فَلَمَّا تكالب الطاغية على بِلَاد الأندلس بَادر مُحَمَّد الْفَقِيه إِلَى الْعَمَل بِإِشَارَة وَالِده وأوفد مشيخة الأندلس كَافَّة على السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله فَلَقِيَهُ وفدهم منصرفا من فتح سجلماسة فتبادروا للسلام عَلَيْهِ وألقوا إِلَيْهِ كنه الْخَبَر عَن كلب الْعَدو على الْمُسلمين وَثقل وطأته فَحَيَّا وفدهم واستبشر بمقدمهم وبادر لإجابة دَاعِي الله وإيثار الْجنَّة وَكَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله مُنْذُ أول أمره مؤثرا عمل الْجِهَاد كلفا بِهِ مُخْتَارًا لَهُ لَو أعطي الْخِيَار على سَائِر أَعماله حَتَّى لقد كَانَ اعتزم على الْغَزْو إِلَى الأندلس أَيَّام أَخِيه الْأَمِير أبي بكر وَطلب إِذْنه فِي ذَلِك فَلم يَأْذَن لَهُ فَكَانَ فِي نَفسه من ذَلِك شغل وَله إِلَيْهِ صاغية فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ هَذَا الْوَفْد نبهوا عزيمته وأيقظوا همته فأعمل فِي الاحتشاد وَبعث فِي النفير ونهض من فاس فِي شَوَّال سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة فوصل إِلَى طنجة وَأقَام هُنَالك وجهز خَمْسَة آلَاف من قومه أزاح عللهم وأجزل أعطياتهم وَعقد عَلَيْهِم لِابْنِهِ أبي
سعي السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله فِي فكاك أسرى الْمُسلمين وَمَا يسر الله على يَدَيْهِ من ذَلِك
قد تقدم أَن السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله كَانَ قد بعث خاليه عمَارَة بن مُوسَى وَمُحَمّد بن نَاصِر الوديين وكاتبه أَبَا الْعَبَّاس الغزال إِلَى طاغية الإصبنيول وَأَن الغزال قد أحكم الصُّلْح وَقضى الْغَرَض على مَا يَنْبَغِي وَفِي تِلْكَ السفرة وَقع التفادي بَين السُّلْطَان والطاغية فِي الأسرى الَّتِي كَانَت بَينهمَا حَسْبَمَا مر
فَلَمَّا كَانَت هَذِه السّنة الَّتِي هِيَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف كتب طاغية الإصبنيول إِلَى السُّلْطَان يَقُول إِنَّه لم يبْق ببلادي أحد من أسرى إيالتكم وَلم يبْق عِنْدِي إِلَّا أسرى أهل الجزائر الَّذين عِنْدهم أسرانا وَطلب مِنْهُ مَعَ ذَلِك أَن يتوسط لَهُ عِنْد صَاحب الجزائر فِي المفاداة بَينه وَبَينه وَكَانَت أسرى الإصبنيول تزيد على أسرى الجزائر بِكَثِير وَطلب أَن تكون هَذِه المفاداة على يَدَيْهِ أَعنِي على يَد السُّلْطَان رَحمَه الله الرئيس بالرئيس والبلوط بالبلوط واليكانجي باليكانجي والبحري بالبحري والجندي بالجندي وَمن فضلت عِنْده فضلَة فالبحيري بِخَمْسِمِائَة ريال والرئيس بِأَلف فأسعفه السُّلْطَان فِي طلبه وانتدب للسعي فِي إنقاذ الْمُسلمين من أَيدي الْكفَّار ابْتِغَاء مرضاة الله ورجاء ثَوَابه وَكَانَ السُّلْطَان قد كتب إِلَيْهِ مَعَ الغزال وصاحبيه فِيمَن تَحت أَيْديهم من سَائِر أسرى الْمُسلمين فبعثوا إِلَيْهِ بِأَهْل الْمغرب فَقَط وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُم حبسوا أسرى الجزائر ليفكوا بهم أَسْرَاهُم
وَلما كَاتب السُّلْطَان أهل الجزائر وَعرض عَلَيْهِم مَا طلبه طاغية الإصبنيول امْتَنعُوا من الْفِدَاء فَكتب السُّلْطَان إِلَى باي الجزائر ثَانِيًا فَامْتنعَ ثمَّ
الْخدمَة مَعَ الْخَلِيفَة الْمَذْكُور وانسلخت هَذِه السّنة وفيهَا عزل السُّلْطَان وزيره الْفَقِيه أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس وامتحنه وَبَقِي عاطلا مُدَّة ثمَّ رده إِلَى خطته وَكَانَ السُّلْطَان فِي مُدَّة تَأْخِيره إِيَّاه قد استوزر مَكَانَهُ الْفَقِيه الْعَلامَة الأديب السَّيِّد الْمُخْتَار بن عبد الْملك الجامعي فَقَامَ بأعباء الخطة وبرز فِيهَا رَحمَه الله وفيهَا بنى السُّلْطَان رَحمَه الله المارستان الْكَبِير على ضريح ولي الله تَعَالَى أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَاشر بسلا وَكَانَ على ضريح الْوَلِيّ الْمَذْكُور الْقبَّة وَالْمَسْجِد فَقَط فأدار السُّلْطَان رَحمَه الله على ذَلِك كُله مارستانا كَبِيرا وَبنى بِهِ مَسْجِدا آخر وبيوتا للمرضى تنيف على الْعشْرين وأجرى إِلَيْهِ المَاء وَجعل ميضأة بِإِزَاءِ الْمَسْجِد للرِّجَال وَأُخْرَى شرقيها للنِّسَاء فجَاء ذَلِك من أحسن الْأَعْمَال وَكتب الله أجره فِي صحيفَة السُّلْطَان
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف فَفِي صفر مِنْهَا ورد على الْقَائِد إِدْرِيس كتاب من عِنْد السُّلْطَان وَهُوَ يَوْمئِذٍ لَا زَالَ برباط الْفَتْح يَأْمُرهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ بالحاج مُحَمَّد بن فَرِحُونَ الجراري فوصل إِلَيْهِ مسرحا فَقبض عَلَيْهِ وَبَعثه إِلَى الصويرة وبإثر ذَلِك ورد على السُّلْطَان كتاب من عِنْد وَلَده سَيِّدي مُحَمَّد يُعلمهُ بِأَنَّهُ قبض على الطَّاهِر بن مَسْعُود والحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر لِكَوْنِهِمَا لم يقلعا عَن ضلالهما وشيطنتهما حَتَّى أَنَّهُمَا عزما على اغتياله بمصلى عيد الْأَضْحَى من السّنة الفارطة فحماه الله مِنْهُمَا وَلما وصل السُّلْطَان إِلَى مراكش صَار يكْتب إِلَى الْقَائِد إِدْرِيس برؤوس الْفِتْنَة وَالْقَبْض عَلَيْهِم وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَى أَن استوفى جلهم وَكَانَ الْقَائِد إِدْرِيس فِي هَذِه الْمدَّة قد أحس بِأَن بَاطِن السُّلْطَان لَا زَالَ متغيرا على الودايا فألح عَلَيْهِ فِي الْبَحْث والاستكشاف عَمَّا هُوَ مضمره لَهُم وَمَا يُرِيد بهم وَمَا الَّذِي يجلب رِضَاهُ عَنْهُم ويصفي بَاطِنه عَلَيْهِم فَكتب إِلَيْهِ السُّلْطَان رَحمَه الله كتابا أفْصح فِيهِ عَن مُرَاده يَقُول فِيهِ بعد الِافْتِتَاح والطابع الشريف بَينه وَبَين الْخطاب مَا نَصه خَالنَا الأرضى الْقَائِد إِدْرِيس الجراري سَلام عَلَيْك وَرَحْمَة الله تَعَالَى وَبعد فَاعْلَم بأنك طلبت منا مشافهة وَكِتَابَة أَن نعرب لَك عَن مرادنا
الصفحة 38