كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)
زيان وَأَعْطَاهُ الرَّايَة واستدعى من العزفي صَاحب سبتة السفن لإجازتهم فوافاه بقصر الْمجَاز مِنْهُ عشرُون أسطولا فَأجَاز الْعَسْكَر الْمَذْكُور وَنزل بطريف فِي السَّادِس عشر من ذِي الْقعدَة من السّنة الْمَذْكُورَة فأراح الْأَمِير أَبُو زيان بطريف ثَلَاثًا ثمَّ دخل دَار الْحَرْب وتوغل فِيهَا وأجلب على ثغورها وبسائطها وامتلات أَيْديهم من الْمَغَانِم وأثخنوا بِالْقَتْلِ والأسر وتخريب الْعمرَان ونسف الْآثَار حَتَّى نزل بِسَاحَة شريش فخام حاميتها عَن اللِّقَاء وتحصنوا بالأسوار وقفل الْأَمِير أَبُو زيان الجزيرة الخضراء وَقد أمتلأت أَيدي عسكره من الْأَمْوَال وحقائبهم من السَّبي وركائبهم من السِّلَاح والأثاث وَرَأى أهل الأندلس أَن قد ثأروا بعام الْعقَاب بعد أَن لم تنصر لَهُم راية من ذَلِك الْيَوْم إِلَى الْآن وَالله غَالب على أمره
الْجَوَاز الأول للسُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس برسم الْجِهَاد
ثمَّ اتَّصل الْخَبَر بالسلطان يَعْقُوب رَحمَه الله أَن الْعَدو قد أَخذ فِي الاستعداد وعزم على الْخُرُوج إِلَى بِلَاد الْمُسلمين فاعتزم على الْغَزْو بِنَفسِهِ وخشي على ثغور بِلَاده من عَادِية يغمراسن صَاحب تلمسان فَبعث حافده تاشفين بن عبد الْوَاحِد بن يَعْقُوب فِي وَفد من بني مرين لعقد السّلم مَعَ يغمراسن وَالرُّجُوع للاتفاق وَالْمُوَادَعَة وَوضع أوزار الْحَرْب بَين الْمُسلمين للْقِيَام بوظيفة الْجِهَاد فَأكْرم موصله وموصل قومه وبادر إِلَى الْإِجَابَة والألفة وأوفد مشيخة بني عبد الواد على السُّلْطَان يَعْقُوب لعقد السّلم وَبعث مَعَهم الرُّسُل وأسني الْهَدِيَّة وَجمع الله كلمة الْإِسْلَام وَعظم موقع هَذَا السّلم من السُّلْطَان يَعْقُوب لما كَانَ فِي نَفسه من الْميل الى الْجِهَاد وإيثار مبرورات الْأَعْمَال فَبَثَّ الصَّدقَات شكرا لله تَعَالَى على مَا منحه من التفرغ لذَلِك ثمَّ اسْتنْفرَ الكافة واحتشد الْقَبَائِل والجموع ودعا الْمُسلمين إِلَى جِهَاد عدوهم وخاطب فِي ذَلِك سَائِر أهل الْمغرب من زناتة وَالْعرب والموحدين والمصامدة وصنهاجة وغمارة وأروبة ومكناسة وَجَمِيع قبائل البربر من المرتزقة والمتطوعة وأهاب بهم وَشرع فِي عبور الْبَحْر فأجازهم من فرضة قصر الْمجَاز فِي صفر
أعَاد إِلَيْهِم الْكِتَابَة ثَالِثا وحضهم على فكاك أسرى الْمُسلمين ووعظهم وخوفهم عِقَاب الله ورغبهم فِي ثَوَابه فأذعنوا وامتثلوا وطلبوا مِنْهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِم رجلا من خاصته يقف على المفاداة بِنَفسِهِ ويدفعون إِلَيْهِ أَسْرَاهُم فِي يَده ويتسلم مثل عَددهمْ من إخْوَانهمْ فَلَمَّا ورد على السُّلْطَان كتاب أهل الجزائر بالامتثال كتب إِلَى الطاغية يَأْمُرهُ أَن يبْعَث بِمَا عِنْده من أسرى الْمُسلمين فِي مركب إِلَى الجزائر وينتظر هُنَالك الباشدور الَّذِي يوجهه من قبله حَتَّى تكون المفاداة على يَده وَبعث السُّلْطَان لهَذَا الْغَرَض كَاتبه أَبَا الْعَبَّاس الغزال وصاحبيه وَعند وصولهم إِلَى الجزائر أرسى مركب الإصبنيول بِظَاهِر مرْسَاها وَأنزل من أسرى الْمُسلمين ألفا وسِتمِائَة ونيفا فَأخْرج أهل الجزائر من أسرى النَّصَارَى مثلهم ألفا وسِتمِائَة ونيفا أَيْضا وَبقيت عِنْدهم من أسرى النَّصَارَى فَضله ففداها الإصبنيول بِالْمَالِ وانفصلوا وَرجع الباشدور وَمن مَعَه إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان وَكتب الله أجر ذَلِك فِي صَحِيفَته
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان قبائل تادلا لإفسادهم ومحاربة بَعضهم بَعْضًا فنهب أَمْوَالهم وشردهم فِي كل وَجه وَولى عَلَيْهِم الْقَائِد صَالح بن الرضي الورديغي فاستصفى أَمْوَالهم وأفقرهم حَتَّى لم يقدروا على الِانْتِقَال من مَحل إِلَى آخر من قلَّة الظّهْر
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف فِيهَا غزا السُّلْطَان برابرة جروان لما ظهر مِنْهُم من الْفساد وإغرائهم ابْنه الْمولى يزِيد بالانتزاء على الْملك واجتماعهم على مُحَمَّد وناصر الْمَعْرُوف بمهاوش رَأس الْفِتْنَة وتباريهم فِي خدمته فَقدم من مراكش وطرقهم وَادي كريكرة فأوقع بهم وَنهب أَمْوَالهم وَقتل مِنْهُم نَحْو الْخَمْسمِائَةِ وتركهم عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس بمكناسة وفاس ثمَّ نقلهم إِلَى بسيط آزغار وأنزلهم وسط الْعَرَب فانحسمت مَادَّة فسادهم
ونطالعك بغاية قصدنا وأمنيتنا فِي الْجَيْش وَمَا يجلب رضانا عَنْهُم وَكُنَّا نجيبك عَن ذَلِك جَوَابا إقناعيا لعدم وثوقنا وقتئذ بِصدق لهجتك وَكَانَ يخيل لنا أَنَّك تباحثنا على جِهَة الِاطِّلَاع على خبيئة أمرنَا والآن اتَّضَح مَا أَنْت عَلَيْهِ من الصدْق ووفور الْمحبَّة وخلوص النِّيَّة حَتَّى صرت بِهِ كَأحد أَوْلَادنَا
(وَلَيْسَ يَصح فِي الأذهان شَيْء ... إِذا احْتَاجَ النَّهَار إِلَى دَلِيل)
وَعَلِيهِ فَأَنت أولى من نبثه سرنا وَلَا ندخر عَنهُ شَيْئا من دخيلة أمرنَا فَاعْلَم أرشدك الله أَن من بارزنا بالسوء قولا وفعلا من ذَلِك الْجَيْش هم المغافرة كَافَّة واستوى فِي ذَلِك كَبِيرهمْ وصغيرهم قويهم وضعيفهم وَلم يلف مِنْهُم رجل رشيد وَلَو ساعدهم الودايا وَأهل السوس وخلوا بَينهم وَبَين هواهم لَكَانَ مَا أرادوه من تلف مهجتنا وَلَكِن الله سلم وَلَا يخفى على أحد مَا استوجبوه لذَلِك شرعا وطبعا ولسالف خدمتهم وكظم الغيظ المرغب فِيهِ ارتكبنا فِي جانبهم أخف مَا أوجبه الله تَعَالَى على أمثالهم قَالَ جلّ علاهُ {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا} الْمَائِدَة 33 الْآيَة وَقد آلَيْت على نَفسِي وأشهدت الله وَمَلَائِكَته أَن لَا يضمني سور فاس الْجَدِيد والمغافرة بِهِ فَهَذَا هُوَ مَحْض الصدْق والآن بَين لنا كَيفَ يكون الْعَمَل فِي ذَلِك وَمَا نقدم وَمَا نؤخر لِأَن المُرَاد قَضَاء الْغَرَض من غير مشقة وَلَا فضيحة للجيش وَهل تفشي هَذَا أَو تكتمه وعَلى تَقْدِير امتثالهم عين لنا أَي مَحل ينتقلون إِلَيْهِ من ثغور إيالتنا كالرباط وَغَيره أَو قَصَبَة مراكش فَإِن النَّفس لم تسمح بهم بِالْكُلِّيَّةِ بل المُرَاد زجرهم وَإِقَامَة بعض حق الله فيهم وَيحصل لنا الاطمئنان والسكينة ونبر قسمنا فالمؤمن لَا يلْدغ من جُحر مرَّتَيْنِ وَمَا ذكرت من أَنا عاهدناك ووعدناك بِالْإِحْسَانِ والتنويه بشأنك فَإِنَّهُ وعد صدق لَا مرية فِيهِ إِن شَاءَ الله وَكَيف وَقد اسْتَوْجَبت منا كل جميل وقدمك لمعالي الْأُمُور عقلك وصدقك وَلَو ألفينا فِي الْجَيْش مثلك لضممنا عَلَيْهِ البراجم والرواجب وَفعلنَا فِي جَانِبه مَا هُوَ الْوَاجِب وَقد اقتصرت حَيْثُ طلبت أَن تكون بِمَنْزِلَة الْقَائِد قدور بن الْخضر عِنْد سَيِّدي الْكَبِير رحمهمَا الله فَأَنت
الصفحة 39