كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (اسم الجزء: 3)

سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة واحتل بساحل طريف وَكَانَ السُّلْطَان يَعْقُوب حِين استصرخه ابْن الْأَحْمَر وأوفد عَلَيْهِ مَشَايِخ الأندلس اشْترط عَلَيْهِ السُّلْطَان يَعْقُوب النُّزُول عَن بعض الثغور بساحل الفرضة لاحتلال عساكره بهَا فتجافى لَهُ عَن رندة وطريف
وَلما أحس الرئيس أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة بِإِجَازَة السُّلْطَان يَعْقُوب قدم إِلَيْهِ الْوَفْد من أهل مالقة ببيعتهم وصريخهم وَكَانَ أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة وَأَخُوهُ أَبُو إِسْحَاق من أَصْهَار ابْن الْأَحْمَر وَكَانَا مستوليين على مالقة ووادي آش وقمارش وَوَقعت بَينهمَا وَبَين ابْن الْأَحْمَر مُنَافَسَة فَخَرَجَا عَن طَاعَته وَلما عبر السُّلْطَان يَعْقُوب إِلَى الأندلس بَادر أَبُو مُحَمَّد بن أشقيلولة إِلَيْهِ واتصل بِهِ وأمحضه الود والنصح وسابق ابْن الْأَحْمَر فِي ذَلِك ونازعه فِي برور مقدمه والإذعان لَهُ وَرُبمَا صدرت من ابْن أشقيلولة فِي حق ابْن الْأَحْمَر جفوة بِمحضر السُّلْطَان يَعْقُوب أدَّت إِلَى بعض الْفساد وَانْصَرف ابْن الْأَحْمَر مغاضبا للسُّلْطَان من أجل ذَلِك
وَلما احتل السُّلْطَان بِنَاحِيَة طريف مَلَأت كتائبه ساحة الأَرْض مَا بَينهَا وَبَين الجزيرة الخضراء ثمَّ نَهَضَ إِلَى الْعَدو قبل أَن يسْبق إِلَيْهِم الْخَبَر فَدخل دَار الْحَرْب وانْتهى إِلَى الْوَادي الْكَبِير فعقد هُنَالك لوَلَده الْأَمِير يُوسُف على خَمْسَة آلَاف من عسكره قدمهَا بَين يَدَيْهِ ثمَّ تبعه على أَثَره وسرح كتائبه فِي البسائط وخلال المعاقل تنسف الزروع وتخطم الغروس وتخرب الْعمرَان وتنتهب الْأَمْوَال وتكتسح السَّرْح وَتقتل الْمُقَاتلَة وَتَسْبِي النِّسَاء والذرية حَتَّى انْتهى إِلَى حصن المدور وبياسة وأبدة واقتحم حصن بلمة عنْوَة وأتى على سَائِر الْحُصُون فِي طَرِيقه فطمس معالمها واكتسح أموالها
وقفل السُّلْطَان يَعْقُوب رَحمَه الله وَالْأَرْض تموج سبيا إِلَى أَن عرس بأستجه من تخوم دَار الْحَرْب وجاءه النذير بِاتِّبَاع الْعَدو آثاره لاستنقاذ أسراه واسترجاع أَمْوَاله وَأَن زعيم الفرنج وعظيمهم نونه خرج فِي طَلَبهمْ فِي أُمَم النَّصْرَانِيَّة من المحتلم إِلَى الشَّيْخ فَقدم السُّلْطَان الْغَنَائِم بَين يَدَيْهِ وسرح ألفا من الفرسان أمامها وَسَار يقتفيها من خلفهَا حَتَّى إِذا أطلت رايات الْعَدو مر ورائهم كَانَ
حِصَار السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله مَدِينَة مليلية من ثغور الإصبنيول

لما كَانَت أَوَاخِر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف غزا السُّلْطَان سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله مَدِينَة مليلية وفيهَا نَصَارَى الإصبنيول فأحاطت عساكره بهَا وَنصب عَلَيْهَا المدافع والمهاريس وَشرع فِي رميها أول يَوْم من الْمحرم سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَألف وَاسْتمرّ على ذَلِك أَيَّامًا فَكتب إِلَيْهِ طاغية الإصبنيول يعاتبه على حصارها ويذكره المهادنة وَالصُّلْح الَّذِي انْعَقَد بَينه وَبَينه وَيَقُول لَهُ هَذَا خطّ كاتبك الغزال الَّذِي كَانَ وَاسِطَة بيني وَبَيْنك فِي عقد الصُّلْح لَا زَالَ تَحت يَدي فَأَجَابَهُ السُّلْطَان رَحمَه الله بِأَن قَالَ إِنَّمَا عقدت مَعَك المهادنة فِي الْبَحْر فَأَما المدن الَّتِي فِي إيالتنا فَلَا مهادنة فِيهَا وَلَو كَانَت فِيهَا مهادنة لخرجتم إِلَيْنَا ودخلنا إِلَيْكُم فَكيف ادِّعَاء المهادنة مَعَ هَذِه المداهنة فَبعث إِلَيْهِ الطاغية عقد الصُّلْح بِعَيْنِه فَإِذا هُوَ عَام فِي الْبر وَالْبَحْر فَكف عَن حربها وَأَفْرج عَنْهَا وَترك هُنَالك جَمِيع آلَات الْحَرْب من مدافع ومهاريس وكراريص وبنب وكور وبارود وَشرط على الطاغية حملهَا فِي الْبَحْر وردهَا إِلَى الثغور الَّتِي جلبت مِنْهَا لما فِي جرها فِي الْبر من الْمَشَقَّة على الْمُسلمين فأنعم بذلك وَبعث مراكبه فَحملت بَعْضهَا إِلَى تطاوين وَبَعضهَا إِلَى الصويرة وَذَلِكَ محلهَا الَّذِي سيقت مِنْهُ وَكَانَ ذَلِك سَبَب تَأْخِيره الغزال عَن كِتَابَته وَبَقِي عاطلا إِلَى أَن كف بَصَره وَمَات رَحمَه الله
وَسمعت من بعض فُقَهَاء الْعَصْر وَقد جرت المذاكرة فِي كَيْفيَّة هَذَا الصُّلْح فَقَالَ إِن الغزال رَحمَه الله لما أعْطى خطّ يَده بِالصُّلْحِ والمهادنة كتب فِي الصَّك مَا صورته وَإِن المهادنة بَيْننَا وَبَيْنكُم بحرا لَا برا فَلَمَّا حَاز النَّصَارَى خطّ يَده كشطوا لَام الْألف وَجعلُوا مكنانها واوا فَصَارَ الْكَلَام هَكَذَا بحرا وَبرا وَأَن السُّلْطَان رَحمَه الله إِنَّمَا أَخّرهُ لاختصاره الْكَلَام وإجحافه بِهِ حَتَّى سهل على النَّصَارَى تحريفه وَكَانَ من حَقه أَن يَأْتِي بِعِبَارَة مُطَوَّلَة مفصلة
عندنَا بِمَنْزِلَة أعظم من مَنْزِلَته وَالْيَد الَّتِي اتَّخذت عندنَا أعظم مِمَّا اتخذ هُوَ عِنْد سَيِّدي الْكَبِير قدس الله سره فقد جازاه على الصدْق فَقَط أما أَنْت فقد شاركته فِي هَذِه الْمرتبَة وفقته بِمَا هُوَ أعظم وَهُوَ إحسانك لعيالنا وَأَوْلَادنَا وَلَوْلَا أَنْت لهلكوا جوعا فَلَا يكفر هَذِه الضَّيْعَة إِلَّا لئيم وحاشانا الله من ذَلِك فطب نفسا وقر عينا فلك عندنَا من المكانة والخطوة مالو اطَّلَعت على حَقِيقَته لطربت سُرُورًا ونشاطا وسترى إِذا انجلى الْغُبَار وَلَا زَالَ أهلنا يتذكرون إحسانك إِلَيْهِم بحضرتنا ويلتمسون لَك الدُّعَاء الصَّالح من جانبنا وَفِي الحَدِيث مَا مَعْنَاهُ أَن أمْرَأَة من بني اسرائيل أَبْصرت كَلْبا يلعق الحمئة من شدَّة الْعَطش فسقته فغفر الله لَهَا فَكيف بِمن أسدى مَعْرُوفا لجَماعَة انْقَطع رجاؤهم إِلَّا من الله وَالله لن يخزيك الله أبدا وَالسَّلَام فِي ثامن عشر رَمَضَان الْمُعظم عَام ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَألف اه نَص الْكتاب ثمَّ إِن الله تَعَالَى هيأ للسُّلْطَان أمره فِي الودايا وألهمه رشده فيهم فَأمر أَولا بِنَقْل رحى المغافرة إِلَى قَصَبَة الشرادي من أَعمال مراكش وَظن النَّاس أَنه يقْتَصر على ذَلِك لِأَنَّهُ رَحمَه الله لم يكن يظْهر إِلَّا أَنه يُرِيد نقل المغافرة فَقَط ثمَّ نقل رحى الودايا إِلَى العرائش وأحوازها ثمَّ ردهم إِلَى جبل سلفات ثمَّ بعد ذَلِك بِمدَّة يسيرَة نقل رحى أهل السوس إِلَى رِبَاط الْفَتْح فَأنْزل حلتهم بالمنصورية على شاطىء وَادي النفيفيخ وقوادهم ووجوههم بقصبة رِبَاط الْفَتْح ثمَّ رد الْحلَّة بعد مُضِيّ سِتّ سِنِين إِلَى قَصَبَة تمارة قرب رِبَاط الْفَتْح وَكَانَت متلاشية فَأمر السُّلْطَان بعد سنتَيْن أَو ثَلَاث بترميمها وإصلاحها وَكَانَ رَحمَه الله قد أسقط هَذَا الْجند الوديي من الجندية وَأعْرض عَنهُ بِالْكُلِّيَّةِ سِنِين ثمَّ استردهم فِي حُدُود السِّتين كَمَا سَيَأْتِي وَلما أخلى السُّلْطَان فاسا الْجَدِيد من جَيش الودايا بأسره وَكَانَ بمراكش بعث بالطاهر بن مَسْعُود وبالحاج مُحَمَّد بن الطَّاهِر فسجنا بِهِ مُدَّة ثمَّ قدمت عريفة الدَّار الْحَاجة زويدة بِكِتَاب من عِنْد السُّلْطَان على وَلَده سَيِّدي مُحَمَّد بفاس يتَضَمَّن الْأَمر بقتل الطَّاهِر وَابْن الطَّاهِر بِالْمحل الَّذِي افتك فِيهِ الأول الثَّانِي فأخرجا إِلَى الْمحل الْمَذْكُور وَحضر

الصفحة 40